ما هي مؤشّرات أنّ الحرب باتت في فصلها الأخير؟ وما هو المدلول الزمني لهذا الفصل؟ دعونا أوّلاً نتأمّل في استنتاجات بنيامين نتنياهو بأنّ احتلال رفح بات مسألة الانتصار أو الهزيمة.
ثم بعد ذلك مباشرةً دعونا نراقب ما تقوله الولايات المتحدة الأميركية في الأسابيع والأيّام الأخيرة، ثم التأمّل في مواقف دول "الغرب"، ومواقف دول الإقليم التي تتبلور تباعاً.
عندما يحدّد نتنياهو أنّ معركة رفح هي مسألة النصر أو الهزيمة، مسألة حياة أو موت، فإنّه من زاوية معيّنة على حقّ، وهو يدرك ما يقول، ويعي تماماً ويقصد ما يقول.
هناك فقط يستطيع نتنياهو أن "ينتزع" الصورة التي كان يبحث عنها طوال الشهور الأربعة - وها نحن قد دخلنا في الشهر الخامس - وهناك فقط يستطيع أن يصدّر للمجتمع الإسرائيلي بأنّ مئات آلاف الفلسطينيين باتوا هائمين على وجوههم، يتضوّرون جوعاً، وليس أمامهم إلّا أن يستجدوا إبقاءهم على قيد الحياة حتى ولو في العراء، في هذا البرد القارس.
وهناك فقط سيهرع العالم إليه مطالباً بحلول سريعة لإنقاذ مليون ونصف المليون فلسطيني، وهناك ستطالبه الولايات المتحدة بالتوقّف فوراً عن إطلاق النار، وهناك ستضغط دول "الغرب" على نتنياهو، وكذلك دول الإقليم العربي لكي يوافق على الاستجابة بشروط تتنازل حركة " حماس " بموجبها عن بعض مطالباتها وشروطها، وسينصبُّ الضغط على "حماس" من كلّ جانب، وقد تبدأ كلّ الأطراف بتحميلها ــ أيْ "حماس" ــ مسؤولية "الكارثة" الجديدة إذا ما أصرّت على تلك الشروط.
"سيتنازل" نتنياهو عن أهدافه المعلنة، لأنّه سيقول: إنّ الضغط العسكري هو الذي أدّى إلى تراجع "حماس".. وهو بالتالي قادر على "إتمام الصفقة بشروطه، وقادر على "الانخراط" في مرحلة ما بعد الحرب من موقع الذي تمكّن من رسم معالم القطاع لاحقاً من واقع إجبار فصائل المقاومة على التخلّي عن معظم شروطها السابقة.
في علم السياسة يسمّى سلوك نتنياهو في التراث العربي الإسلامي للحروب "حرق السفن"، والسبب واضح هنا، لأنّ عدم قدرة نتنياهو على تحقيق ما يخطّط له سيعني بالضرورة الهزيمة الساحقة الماحقة.
أما في فنون لعب القمار، فإنّ خطة نتنياهو وسلوكه تسمّى "الصولد". حيث يضع المقامر كلّ ما يملك ضربةً واحدة. فإذا خسر يكون قد خسر كلّ شيء، أما إذا ربح فإنّه يكون قد عوّض خساراته التي تراكمت على مدار أكثر من أربعة شهور من الحرب.
وبما أنّه لا توجد جغرافيا ما بعد رفح، وبما أنّ مسألة التهجير إلى سيناء ما زالت مستبعدة، فليس أمام نتنياهو من أوراق في رفح سوى ورقة المدنيين الفلسطينيين، كونه يعرف ويدرك أنّه لا يملك حلولاً عسكرية هناك، تماماً كما ثبت أنّه لم يمتلك مثل هذه الحلول في خان يونس، ومن قبلها منطقة مدينة غزة ، ووسطها، وكذلك في شمال القطاع.
ولهذا فإنّ كلّ "مسألة" رفح هي أنّها الورقة الأخيرة، والورقة "الرابحة" الوحيدة التي تبقّت له، وهي المدنيون الفلسطينيون.
تبدو أوروبا على قناعةٍ بأنّ نتنياهو سيُقدِم عليها، لأنّه لن يعترف بالهزيمة، ويوافق على شروط المقاومة للصفقة التي ستنتهي بوقف إطلاق النار، وتبدو الولايات المتحدة على قناعةٍ بأنّ وقف نتنياهو - قبل أن يجرّب حظّه الأخير في رفح - سيعني اعترافاً أميركياً بالهزيمة المزدوجة معه، ولذلك قرّرت أن تشاركه "جزئياً" في الجرائم المرتقبة علّهما معاً يحقّقان ما يحفظ ماء الوجه، أو علّ "المقاومة" تتراجع عن بعض الشروط قبل محاولة اجتياح رفح، أو أثناء "معركة" رفح إذا ما أصبح ضرورياً القيام بهذا الاجتياح.
وعندما نتحدث عن معركة رفح بالمفهوم الذي يخطّط له نتنياهو، فإنّنا من الناحية الزمنية سنكون أمام عدة أسابيع قبل أن تبدأ، وسنكون أمام نزوح مئات الآلاف إلى مناطق جديدة ليست من بينها العودة إلى الشمال، ما يعني أنّ جرائم الإبادة الجديدة ستبدأ مباشرةً في هذه الأيام لكي يحضّر نتنياهو مسرح الجرائم التي ينوي القيام بها، وستستمرّ أثناء العمليات العسكرية في رفح ربما لعدة أسابيع إضافية.
وسواء نجح نتنياهو في "انتزاع" الصورة التي تحدّثنا عنها أو فشل، فإنّ السقف الزمني لهذه المعركة لن يتجاوز ثلاثة أو أربعة أسابيع من بدء الاجتياح البرّي للمدينة وضواحيها ومخيّماتها وأطرافها.
وإذا نجح ولو جزئياً فستقف الحرب، وإذا فشل فليس أمامه سوى أن تتوقّف الحرب.
الحديث عن الحرب الطويلة، وعن حربٍ ستمتد حتى نهاية العام، وعن حربٍ ستمتد لسنوات ليس له أيّ أسانيد، لا عسكرية، ولا  أمنية ولا سياسية.
ليس هذا فقط، بل إن معركة رفح هي معركة افتراضية في الواقع، وإمكانية الذهاب إليها أقلّ من إمكانية التراجع عنها، ومراهنة نتنياهو عليها ليست مراهنةً حقيقية، وأغلب الظنّ أنّ التهديد بها هو الهدف الأوّل.
الذهاب إلى رفح، وتحقيق أهداف نتنياهو التي ما زال يردّدها من الانتصار الحاسم والمطلق هي أزمة لإسرائيل، وللولايات المتحدة، و"الغرب" والإقليم وهي أكبر من الأزمة الحالية على كلّ ما تنطوي عليه من مظاهر الفشل الإسرائيلية. والسبب واضح ولا يحتاج إلى فطنةٍ خاصة.
وصول نتنياهو إلى تلك الأهداف سيمرّ إجبارياً بالحرب في جنوب لبنان على أقلّ تقدير، وقد يكون من الإجباري، أيضاً، المرور بحربٍ أشمل وأكبر وأوسع.
البعض لا يرى ذلك، ويرى أن كسر المقاومة لن يعني، لا الحرب الواسعة من جنوب لبنان، ولا الحرب الإقليمية الشاملة.
هذا البعض مطالب أن يبين لنا أسبابه ودوافعه لمثل هذه الرؤى، ولمثل هذا "اليقين".
باستثناء المواقف المؤسّسة على "القَبلية" السياسية، والمواقف مسبقة الصنع والتفكير، لا أرى شاهداً أو سنداً لمثل هذه المواقف.
على العكس من ذلك، فإنّ كلّ الشواهد تقول: إنّ لحظة الحرب من الجنوب هي اللحظة التي يشعر من خلالها "حزب الله" أنّ نتنياهو يمكن أن ينتصر، أو أنّ المقاومة يمكن أن تنكسر، هذا إذا اعتبرنا أنّ القتال من الجنوب اللبناني ما زال بعيداً عن الحرب الشاملة هناك، ومن هناك.
إذا ما قُدّر أن تكون هناك لحظة رمادية في هذا المشهد، فإنّ الانتصار الإسرائيلي الحاسم والمطلق المزعوم يظلّ مستحيلاً، و"انكسار" المقاومة سيظلّ نسبياً، لأنّ القتال سيستمر بصورةٍ أشدّ في وسط وشمال القطاع، ولأنّ القتال من جنوب لبنان سيشهد تصعيدات كبيرة، وهو ما سيحرم نتنياهو من "انتزاع" الصورة على كلّ حال.
نتنياهو متورّط حتى أُذنيه، وغارق حتى فتحات الأنف. أميركا تعرف وتدرك ذلك، و"الغرب" كذلك، أمّا العرب فلا يريدون أن يصدّقوا بأنّه متورّط وغارق.
الخوف كلّ الخوف هو أن يكون العرب لا يريدونه أن يكون كذلك.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد