بعد مرور أربعة أشهر، ومنذ نحو شهر تقريباً، انتقل الحديث بالتدريج من حديث إسرائيلي صاخب عن انتقالات الحرب من مرحلة لأخرى، بالتحديد من ما بعد المرحلة الأولى والثانية، إلى المرحلة الثالثة، أي تركيز النار على المواقع العسكرية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ، والتقليل من استهداف المدنيين، وذلك بعد أن ضج العالم بأسره، من الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين، وصولاً إلى تقديم الدعوى من قبل جنوب أفريقيا ضدها في محكمة العدل الدولية، واتهامها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وكان ذلك الحديث قد جبّ ما سبقه من حديث كان متداولاً مطلع كانون الأول الماضي، أي بعد تنفيذ صفقة التبادل الوحيدة بين الأطفال والنساء من المحتجزين الإسرائيليين مقابل 3 أضعاف عددهم من نساء وأطفال فلسطينيين معتقلين في السجون الإسرائيلية، والآن عاد الحديث مجدداً عن صفقة للتبادل، لكن في ظل استعصاء بين الطرفين المتحاربين، في معركة عض أصابع واضحة، يدل عليها ما يطرحه علنا كلاهما، من شروط نهائية، ف حماس تطالب بمعادلة «الكل مقابل الكل»، وتطالب بوقف تام للحرب وانسحاب إسرائيلي كامل من كل أرض قطاع غزة، يرافق ذلك بالطبع الجانب التفصيلي المتعلق بإطلاق سراح المعتقلين مقابل المحتجزين، لدرجة المطالبة بنسبة 1 مقابل مئة.
أما إسرائيل، فتقول إنها لن توقف الحرب، وفقط مقابل إطلاق سراح كل المحتجزين توافق على وقف مؤقت لإطلاق النار، مدته شهران، وأنها لن تتوقف إلا بعد تحقيق أهداف الحرب وهي القضاء على حماس عسكريا وسياسيا، والبقاء في قطاع غزة عسكريا، وبعد ذلك تكثر التفاصيل، لكن ما تطرحه إسرائيل ملخصه استسلام حماس مقابل وقف الحرب، وهكذا عمليا الطرفان لم يتقدما نحو الصفقة وحدهما، بل هما احتاجا إلى ضغط من أكثر من طرف، وكان الطرف الرئيس في الضغط هو الجانب الأميركي، حيث إن إدارة بايدن بحاجة ماسة لأغراض انتخابية وسياسية لمنجز ما، يزيد من فرصة بقاء بايدن في ظل ظهور نجم دونالد ترامب بعد فوزه بترشح الحزب الجمهوري في ولايتي أيوا ونيوهامبشير، كذلك لتخفيض احتمال اندلاع الحرب الإقليمية بعد أن ظهر مستجدان مهمان خلال الشهر الماضي، هما قرار مجلس الأمن الخاص بالملاحة في البحر الأحمر، وإقدام أميركا وبريطانيا على شن غارات عسكرية على أهداف حوثية في اليمن، وصولاً إلى ارتفاع فاعلية المقاومة العراقية ضد القواعد الأميركية وصولاً إلى قاعدتها على الحدود السورية الأردنية التي قتلت فيها ثلاثة جنود أميركيين مع نحو أربعين جريحاً.
أما ميدانياً، فإن الضغط الداخلي تواصل ضد بنيامين نتنياهو وجوقة التطرف الفاشي في الحكومة الإسرائيلية، لكنه لم يهتز، ذلك أنه من الواضح أن هذه المعركة هي معركته الأخيرة أياً كانت نتائجها، وبات الجميع متأكداً تماماً، أن مواصلة الحرب من الجانب الإسرائيلي خاصة ضد قطاع غزة، لم تعد أكثر من حرب عبثية لا تحقق سوى قتل المدنيين الفلسطينيين، بما يزيد من حقد الأجيال القادمة، بما فيها شعوب العالم، التي تواصل التظاهر والتنديد بإسرائيل في كل أنحاء العالم. بات الجميع في إسرائيل وفي كل مكان متأكداً من أن نتنياهو يواصل الحرب فقط ليبقى في الحكم، وهذا ما يقول به عملياً وبكل وضوح رفاقه في ذات المصير، وبالتحديد كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ودعا الأول نتنياهو أول من أمس إلى عدم عقد أي صفقة مع حماس، أياً تكن تفاصيلها، وقال باختصار ووضوح إن أي وقف للحرب يعني حل الحكومة، ولهذا فإن رئيس المعارضة يائير لابيد عرض «تحرير» نتنياهو من قيد بن غفير وسموتريتش عارضاً عليه شبكة أمان لدفعه إلى عقد صفقة تتضمن تحرير المحتجزين.
والمواجهة ميدانياً، تظهر من جهة إسرائيل ضعفاً برياً، صحيح أن القصف والقتل في صفوف المدنيين ما زال كما هو تقريباً، لكن القوات الإسرائيلية برياً في حربها بعد مخيمات الوسطى، وعلى مداخل خان يونس وفي محيطها ظهرت أضعف كثيراً وأبطأ مما ظهرت عليه في الشمال وفي غزة، ولهذا علاقة بطول فترة الحرب، حيث أصاب الجنود الإسرائيليين التعب واليأس، بحيث حاولت إسرائيل أكثر من مرة سحب ألوية واستبدالها بأخرى، في حين أن المقاومة على العكس يبدو أنها تركت في خان يونس أفضل قواتها، واستعدت جيداً، وأكثر من ذلك عادت إلى غزة والشمال، لتشتبك مع العدو، وتنصب له الكمائن، وتلحق به الخسائر البشرية وفي المعدات، لدرجة أن إسرائيل أعلنت بصراحة أن حماس تعود لتنظيم صفوفها في غزة وشمال القطاع.
حتى المنطقة العازلة في الشرق والشمال، لن تكون هكذا أي منطقة أمنية عازلة، فيما بعد الحرب، وقد حاولت إسرائيل قبل أسابيع قليلة، أن تهرب من وحل غزة، ب فتح ملف جبهة الشمال، ففتحت ملف قرار مجلس الأمن 1701، وأعلنت بشكل يبدو أن المقصود به هو البيت الأبيض، أنها تستعد لحرب واسعة في الشمال، بعد أن كانت تهدد بأنه إذا لم يقم حزب الله بسحب مقاتليه إلى شمال الليطاني، حسب قرار مجلس الأمن، وإذا لم تحقق السياسة هذا الهدف، الذي يتيح لها إعادة مستوطني شمالها إلى منازلهم، وهم منذ أربعة شهور يثقلون كاهل الميزانية بإقامتهم في الفنادق بعيداً عن الحدود، فإنها ستلجأ إلى القوة العسكرية، والدنيا كلها تعلم أن إسرائيل لو شنت حرباً على لبنان، فإن صواريخ حزب الله ستتساقط على كل إسرائيل، وستجبر أميركا على التورط في حرب إقليمية لن تقتصر على حزب الله وحماس والحوثي.
ما يغلق الأفق أمام الحرب الإسرائيلية، وبالتحديد أمام استمرارها على قطاع غزة، ليس فقط طرفاها ميدانياً، أي القوة العسكرية الإسرائيلية التي باتت مجهدة ومرهقة، وحتى مشتتة بسبب الخلافات داخل إسرائيل وحتى داخل المجلس الوزاري المصغر والكابينيت، وبين إسرائيل وأميركا، والمقاومة التي باتت أشد عوداً، رغم أنه يمكن القول إنه من الطبيعي أن لا يكون قد بقي لديها الكثير من الذخائر، وما يوضح هذا هو متابعة ما يعلن من وقائع ميدانية، لكن ما هو مهم، أنه حتى دخول القوات الإسرائيلية لمدينة خان يونس لن يعني تحقيق النصر لها، أي القبض على قيادة حماس حية أو ميتة، فتلك القيادة حتى لو كانت في قلب مدينة خان يونس فلن تنتظر القوات الإسرائيلية لتقبض عليها، وكما توهمت إسرائيل بأن تجد تحت مستشفى الشفاء قيادة حماس لمدينة غزة، لن تجد أحداً في خان يونس لا حياً ولا ميتاً، فهناك أنفاق عديدة، ومحافظتا خان يونس ورفح واسعتان جغرافياً، ومن يحمي قادة المقاومة هم المحتجزون الذين هم درع بشري، أولاً، وثانياً، ما بعد مدينة خان يونس، أي رفح، حيث إن إسرائيل لن تقوى على مواصلة تنفيذ الحرب البرية على رفح، بسبب أن نحو نصف سكان قطاع غزة باتوا الآن نازحين في رفح، وهي، أي إسرائيل، أدركت هذا المأزق مبكراً، لذا فكرت في قطع الطريق بفرص الحصار المطبق، من خلال احتلال صلاح الدين أو ممر فيلادلفيا، وهذا يعني مواجهة قد تصل لحد الحرب مع مصر.
هكذا، فإن إسرائيل تواصل محاولة الضغط من خلال إخراج « الأونروا » من غزة، وهي التي كانت تظن أن حجم الدمار الهائل وعدد الشهداء المهول، الذي فتح عليها باب القضاء الدولي ليحاكمها، وما زال الباب مفتوحاً أمام هذا الخيار، حيث سيتتابع رفع الدعاوي ضدها بارتكاب جرائم حرب، تجر للقضاء قادتها، نتنياهو وغالانت وهاليفي، سيشكل عامل ضغط على حماس بحيث تحقق أهدافها العسكرية والسياسية، أو على الأقل، تحقق هدف تأمين مستوطنات الغلاف، أو أي إعلان للنصر، كما كانت تفعل في الحروب السابقة، لهذا نغامر بالقول، إن أميركا قريباً ستخرج من مسرح الحرب، لتنكفئ داخل مسرح الانتخابات، وإن الحرب ستنتهي دون إعلان صريح، يجب عليه البحث في اتفاقيات أو حلول سياسية، وحتى الأميركيون يتحدثون عن إنزال نتنياهو من أعلى الشجرة بصفقة يجري إعدادها، في ظل مبادرات سياسية لا حصر، كل ذلك يعني توقفاً عن القتال الضاري بنتيجة لا غالب ولا مغلوب، أما نتنياهو الذي كان يرفض الخوض في أي حديث عن اليوم التالي للحرب مخافة أن يسقطه بن غفير وسموتريتش، فقد بدأ يغرد بالخوض في تفاصيل خطة إسرائيلية محورها تشكيل حكومة عسكرية إسرائيلية مؤقتة، تقوم بترتيب التفاصيل على هواها، قبل تسليم القطاع لقوة دولية، والى تفاصيل سيناريو أحادي وهمي، أما لحظة الحسم فقد باتت وشيكة، فمجرد أن يتوافق نتنياهو مع لابيد على شبكة الأمان، سيمضي ديفيد برنياع ورونين بار قدماً في عقد الصفقة مع حماس.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد