عندما سافر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1974 ليُلقي خطاباً من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة باسم الشعب الفلسطيني، قال في نهاية خطابه: "لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".

لم يسقط غصن الزيتون الأخضر كرمزٍ للسلام من يد ياسر عرفات؛ ولكن الذي سقط من يده هو بندقية الثائر، واستبدلها بالقلم الذي أعطاه للسيد محمود عباس ليوقّع به على اتفاقية أوسلو عام 1993 في واشنطن، بعد ما يقرب من عقدين على خطابه الأول في الأمم المتحدة، على أمل أن يصنع من غصن الزيتون جسراً يعبر عليه إلى الدولة الفلسطينية المستقلة على بعض الأرض المحتلة كجزء من الحق المغتصب.

لم يُجدِ غصن الزيتون في استرجاع بعض الأرض المحتلة واستعادة جزء من الحق المغتصب، ومرت سنوات الحكم الذاتي الخمس، فاستيقظ الفلسطينيون من وهم الاستقلال على احتلال يترسّخ واستيطان يتمدّد وتهويد يتعمّق، ففجّروا انتفاضة الأقصى الشعبية عام 2000، واستأنفوا من خلالها المقاومة المُسلحة، وشاركت فيها كل حركات المقاومة الفلسطينية، بما فيها حركة فتح، حزب السلطة.

واتضح لقادة الكيان الصهيوني أنّ ياسر عرفات أعاد الإمساك ببندقية الثائر التي أسقطها عند التوقيع على اتفاقية أوسلو، وأعطاها لكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح لتشارك في مقاومة الاحتلال إلى جانب حركات المقاومة الأخرى الجهاد و حماس والشعبية وغيرها؛ ولذلك حاصره الاحتلال في رام الله ثم اغتاله بالسمّ فمضى شهيداً عام 2004، فحلّ مكانه السيد محمود عباس رئيساً لفتح والمنظمة والسلطة.

محمود عباس من أنصار "المقاومة الشعبية السلمية"، ويؤمن بمقولة: "ما ضاع حق وراءه مُطالب" ويكرّرها باستمرار، وآخرها في خطابه الأخير قبل أيام من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فاعتبر "المقاومة الشعبية السلمية هي الخيار الاستراتيجي لتحرير الأرض المُحتلة"، وأعاد مقولته: "ما ضاع حق وراءه مُطالب".

والمُطالبة عنده تكون ميدانياً بالصمود على الأرض وأساليب المقاومة السلمية، وسياسياً بالنضال الدبلوماسي في المحافل الدولية. وبالمقابل من معارضي المقاومة المُسلحة أسلوباً للتحرير، ويستبعد الكفاح المُسلح من فكره السياسي وممارسته الميدانية، ويفتخر بأنه لم يُطلق رصاصة واحدة في حياته، ويعتبر صواريخ المقاومة في غزة صواريخ عبثية.

وهو يرى في العمليات الفدائية تهلكة للنفس وضرراً للشعب... بالرغم من أنه ينتمي لحركة فتح التي اكتسبت شرعيتها الثورية والشعبية من الكفاح المُسلح، ويرأس منظمة التحرير التي نص ميثاقها -قبل التشويه-على أنّ "الكفاح المُسلّح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً".

المطالبة بالحقوق المغتصبة والأراضي المحتلة وفق نهج "المقاومة الشعبية السلمية" ومقولة: "ما ضاع حق وراءه مطالب"، كما يؤمن ويقول محمود عباس لا تُجدي نفعاً مع الكيان الصهيوني القائم على الاستيطان الإحلالي، والمعتمد في نشأته ووجوده على العنف وإدامة العنف، والمرتبط عضوياً بالمشروع الاستعماري الغربي المرتكز على القوة المُسلحة.

إضافة إلى أنه نهج يُخالف السنن التاريخية لحركات التحرّر الوطنية في العالم، التي اتبعت أسلوب التحرير الشعبية المُسلحة لتحرير أرضها من الاحتلال الأجنبي. ونهج يُناقض التجارب الناجحة في إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني نفسه، مثل: تجربة المقاومة اللبنانية بعد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982، التي أدت إلى انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي بطريقة مُذلّة تحت ضغط مقاومة حزب الله عام 2000، وتجربة المقاومة الفلسطينية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 التي أدت إلى تفكيك المشروع الاستيطاني، وانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة تحت ضغط المقاومة الفلسطينية عام 2005.

حصر السيد محمود عباس مقاومة الشعب الفلسطيني بالمقاومة الشعبية السلمية، وأحد أشكالها العمل السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية، ومنها الخطابات السنوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي افتتحها ياسر عرفات عام 1974 برفع غصن الزيتون وبندقية الثائر، واختتمها محمود عباس عام 2023 الحالي، بإسقاط بندقية الثائر والإبقاء على غصن الزيتون، وتكرار نهج المطالبة والاستجداء، المطالبة ببعض الأرض وجزء من الحق، واستجداء الحماية من الاحتلال، والاعتراف بالدولة الفلسطينية الوهمية.

وكأننا أمام مشهد ساخر مُكرّر في مسرحية هزلية مُعادة، بطلها يحفظ دوره ويمثّله ببرود خالٍ من الإحساس، ثم ينام عاماً كاملاً ليعيد تمثيل المشهد مرةً بعد مرة.

المقاومة الشعبية بكلّ أشكالها مطلوبة في مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين، ولكن المقاومة المُسلحة ضد الكيان الصهيوني بالتحديد هي التي ترفع تكلفة الاحتلال والاستيطان، فتضع دولة الاحتلال في مأزق أمني ووجودي، فيتراجع وينكمش ويتفكّك ثم يزول من الوجود. ولكن المقاومة المُسلحة تكون أكثر جدوى وفاعلية عندما تكون خلفها جبهة وطنية فلسطينية موحّدة ولها مشروع وطني واحد، وبرنامج مقاومة واحد.

وتكون نتائجها أكثر قوة وسرعة عندما ترتبط عضوياً بجبهة عربية وإسلامية داعمة ومشاركة في مشروع تحرير فلسطين، وعندما تأوي إلى ركنٍ شديد هو محور المقاومة... حينئذٍ يسكننا اليقين بأنَّ الأرض العربية المحتلة ستُحرّر، والحق الفلسطيني المُغتصب سيعود، لأنّه ما بقيت أرض مُحتلة وراءها مناضل، وما ضاع حق وراءه مقاوم.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد