لا يعرف أحد كيف نجح مواطن مغمور في حرف بوصلة النقاش الوطني كله من إدانة الاحتلال والتفكير في سبل الرد على جريمة إحراق الطفل دوابشة في نابلس من قبل المستوطنين وتدبير تطوير مواقف فصائلية موحدة لخلق حالة استنفار وطني عام، باتجاه نقاش فرعي حول صورة ساذجة يمكن لأي هاوٍ أن يقوم برسمها باستخدام برامج الرسم الحديثة على الكمبيوتر. وبفضل مواقع التواصل الاجتماعي نجح في وضع نفسه في دائرة النقاش حتى كاد الناس ينسون المصيبة الكبرى التي ألمت بعائلة دوابشة ويركزون نقاشهم على فعلته الشنيعة والصورة القبيحة التي قام بنشرها.
والمؤلم في كل ذلك أن هذا المواطن المغمور نجح فيما كان سيرغبه نتنياهو ويتمناه. ففي اللحظة التي يجب فيها أن تتوحد الجهود وتتفاعل الأفكار وتتلاقي الأزناد، كان الهم الشاغل للجميع هذا القبح الذي بدر منه. ورغم تبرئة صحيفة الرسالة التي يعمل فيها منه ومن رسمته الساذجة وغير الوطنية إلا أن الأمر يجب أن يتعدى مجرد الاستنكار ونفض اليد وحلف الأيمان. ودون الخوض في اتهامات غير وطنية عالية من باب أن يكون طُلب منه فعل ذلك من جهات خارجية – كما ذهب البعض للقول -، فإن ما قام به يرقى بكثير من اليقين إلى الأفعال التي تضر بالمصلحة الوطنية. ولكن هذا ليس باب القصيد في هذا المقال، حيث إن البحث في خلفيات ما فعل وإن كان ثمة قصدية من ورائه لحرف النقاش الوطني وتشويه رد الفعل الفلسطيني أمام العالم هو من اختصاص جهات أخرى. ما أريد أن أشير إليه في خضم كل ذلك جملة من القضايا.
بداية القصة لم تكن تحريضاً عابراً، فالشاب كان قد رسم قبل ذلك عشرات الصور ونشرها على مواقع حزبية تمس رموزاً وطنية بقامة ياسر عرفات، أربأ بنفسي أن أقوم بتفسيرها إكباراً لروح الشهيد الخالد. بل كانت مثل تلك الرسومات الساذجة أيضاً لكن نتنة الرائحة تلقى رواجاً في أوساط حزبية خاصة ويتم التهليل لها، وربما كانت هي محرك الكثير من التعصب والكراهية وتصعيد الخطاب. ما أريد أن أقوله إن الأمر لم يكن قضية عابرة ونزوة وانقضت بل هي استكمال لمسيرة طويلة من الردح الوطني ومن تسفيه القضية الوطنية وتصغيرها حتى تصبح الجماعة أهم من القضية.
يلي ذلك أن الشاب (لأنه لا يمكن أن ننعته بالفنان أو الرسام احتراماً لمجتمع الفنانين والرسامين) ربما هو إنتاج ماكينة كراهية عمياء لا تعرف التمييز بين الموقف الحزبي وبين المصلحة الوطنية للدرجة التي يمكن لها أن تدمر ذاتها والوطن من أجل تحقيق مصلحة صغيرة أو الثبات أمام موقف بدر في لحظة انفعال. لا يمكن أن نقول إنه ضحية هذه الماكينة التي ضحيتها الوحيدة هي المصلحة الوطنية، ولكن من المؤكد أنه لم يولد كذلك، بل إن عمله وتفاعله مع سياق الكراهية ساهم في تطوير مفاعيل مضادة للوطنية عنده. وهو ليس وحيداً للأسف، حيث إن جيلاً كاملاً يعيش في ظل هذا الوهم العظيم. سياق الكراهية هذا يقوم بتقسيم العالم إلى فسطاطين: أرض الإسلام وأرض الكفر. بالطبع الوطنية المُغيبة والقضية الضائعة لا مكان لهما في هذا التقسيم. ولكنْ ثمة احتكار مهول يتم وفقه تعريف كل شيء وفق هذين الفسطاطين. فالوطن والوطنية والتاريخ والكفاح والجهاد والاستقامة والنزاهة كلها تبدأ منذ لحظة تقسيم العالم. فالتاريخ الوطني لم يكن موجوداً قبل ذلك ولا النضال التحرري فكله وجد مع بداية تقسيم العالم. في سياق الكراهية هذا هناك جيش من المنتفعين وجيش آخر من معصوبي الأعين الذين يقومون بإطلاق النار على انفسهم بلا هوادة.
أليس هذا ما جلبه لنا الانقسام وثقافة الانقسام. ألم ينطلق الشاب من ثقافة باتت راسخة تتحدث عن غزة بشكل منفصل عن الضفة!! في هذه الثقافة التي هي في جوهرها سياسية لكنها باتت تعتمل في الوعي الباطن للمستقبل السياسي، هناك شعب غزة، الفنان الغزي، والكاتب الغزي، والمواطن الغزي، والمقاوم الغزي، ومستقبل غزة، وصواريخ غزة، ومقاومة غزة وأيضاً ربما دولة غزة. مقابل كل ذلك يتم فصل مصير الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وليس فقط في الضفة الغربية عن مصيره في قطاع غزة. ألم يغب المصير المشترك عن الهدنات التي أعقبت العدوانات الثلاثة على القطاع، وكانت كل هذه الهدن تتحدث عن قطاع غزة فقط فيما القدس تتعرض لأبشع عملية تهويد في التاريخ والضفة الغربية تأكلها الجرافات يومياً. حتى صارت اللغة الدارجة في الخطاب اليومي «الضفة» و»غزة»، وحقيقة أن الانقسام تمثل في السيطرة على غزة بالقوة وبعدم تمكين حكومة الوفاق من السيطرة على غزة بعد تشكيلها، كل ذلك ساهم في «خصي» النقاش الوطني تجاه «حكم» غزة. من الطبيعي أن من يتربى في بيئة كهذه يترعرع على مثل هذه المفاهيم وتصبح هي قده وقديده في حروبه الدونكشوتية حول بطولات زائفة. فهو يشعر بأنه عمل شيئاً كبيراً إذا أهان الشعب أو قسطاً كبيراً منه، او مس تاريخه وبطولاته ورموزه.
القضية الأخرى أن التطرف لا يمكن له أن يقود إلا إلى تطرف آخر، أشد فتكاً. لا يمكن له أن يخلق مجتمعاً متسامحاً. لم يلتفت أحد إلى العمل الجبان الذي تم، أمس، بتلطيخ قبر محمد الأسود «جيفارا غزة «وأحد أهم رموز الكفاح المسلح في تاريخ القطاع. إن من فعل ذلك لا بد أنه تعلم في مدرسة الكراهية دون أن يعرف أن جيفارا غزة ورفاق دربه هم من جعلوا كلمة فلسطين ممكنة وهم من خطوا الطريق الذي لابد أنه يظنه أول من شقه في الصحراء.
القضية الأخرى التي أريد أن أقفل بها النقاش هي حقيقة أن لا شيء بلا حدود على وجه الأرض خاصة حيث يتعلق الأمر بشعب يناضل من أجل أن يعود إلى أرضه. من الصعب على كاتب أن يتحدث عن حدود الكتابة وعن التخوم التي لا يمكن القفز خلفها، لأن هذا ضد فعل الكتابة ذاته. لكنْ في الحقيقة ثمة التزام بالقضية الوطنية لا يمكن أن يكون أرخص ضحايا الحرية. لأن البعض قد يفهم حرية التعبير بطريقة خاطئة سواء كانت هذه الحرية في الكتابة أو الرسم أو الخربشة (كما فعل الشاب) أو البحث الأكاديمي. هناك ما هو أقدس من كل ذلك: فلسطين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية