إن الإسلام ينظم حياة البشرية في مختلف ميادينها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، كما يرسم لها الطريق الصحيح لحل مشاكلها ونجد أن الأمة الاسلامية تشهد بحمد الله- تعالى- صحوة كبيرة على صعيد الوعي بأوضاعها وأحوالها، وهي تشهد أيضاً تقدماً ملحوظاً على طريق فهم الواقع واستشراق المستقبل، وهذا يعود إلى توفيق الله أولاً، ثم إلى هذا التواصل العالمي الذي أتاح التقدم التقني المذهل على صعيد الاتصالات والبث الفضائي، ورغم هذا كله نجد بعض الناس يفكرون بطريقة خاطئة وغير ملائمة وهي التخلص من الحياة بقتل نفسه وذلك عندما يشعرون بالاكتئاب والعزلة والتشاؤم، ويؤكد فريق من علماء النفس أن ما يعاني منه أي إنسان من متاعب وضغوطات نفسية إنما حصاد ما تم زرعه في عقله من أفكار وتصورات وعواطف وميول ، وحين جاء وقت الحصاد ظهر الانتحار، وهو من أخطر البذور التي يجب أن نحرص ألا تكون في عقولنا، لأنها لو زرعت في عقل أي إنسان فتنمو لتمهد السبل إلى النتائج غير المرغوب فيها، ومما لا شك فيه أن تزايد نسبة حوادث الانتحار في مجتمعنا يُعد أمراً طارئاً ومُستغرباً . فالصغار والكبار يقدمون على الانتحار لأسباب قد تكون في نظر الآخرين تافهة كالرسوب في الامتحان وعدم القدرة على الزواج أو توفير مصروف للأبناء ومن الممكن بسبب عبارات السخرية مثل أنت قبيح أو غير مؤهل أو فاشل .... فالانتحار يذهب ضحيته أشخاص ضاقت بهم الحياة وانقطعت بهم السبل وبالرغم من انخفاض النسب والاحصائيات في مجتمعنا إلا أن الانتحار قد يتحول إلى ظاهرة بازدياد حالات العنف والتدهور الحاد في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانسداد أفق الحل السياسي.
وفي ظل المواكبة الشاملة لكل المتغيرات المجتمعية وغياب الوسائل التربوية والتعليمية والإرشادية والتأهيلية والعلاجية المهمة للتعامل مع مثل هذه المشكلات والاضطرابات أبعادها المتنوعة، أضع بين أيديكم تحليلاً لهذه الظاهرة وفِق رؤية نفسية شرعية ساعياً إلى وضع حلول ومقترحات تمنع انتشار تلك الآفة الخبيثة. وأوضح لكم المؤشرات ومقترحات من أجل العلاج.
إن قبلنا جدلاً أن الشخص يكون سعيداً فإنه بالمقابل قد يكون حزيناً، لذلك الشخص كما هو مستمتع بالحياة قد يكون عرضة للانتحار، كنا نظن جميعاً أن الانتحار نادر وخاصة في مجتمعنا العربي وفلسطين على وجه الخصوص. لكن للأسف أصبح الآن قليلاً وليس نادراً كما كنا نظن، لذلك سوف أتناول هذه الظاهرة في عدة محاور أساسية وتشمل:
أولاً: حقائق عن الاكتئاب والانتحار/
* الانتحار هو أكثر مشكلة شائعة عالمياً، وهناك دراسات تشير إلى وجود نسب مرتفعة بين الذكور والإناث وأوضحت بعض الدراسات أن 50% منهم بين سن 18 إلى 19سنة.
*هنالك بعض الفروقات في نسب الانتحار بين الدول المختلفة والحضارات المختلفة، ولكن هنالك ازدياد في نسب الانتحار عالمياً.
* أن التعاطي المفرط للكحول والمخدرات الاخرى يُعرّض الأشخاص للإصابة بالاكتئاب، ويؤدّي ذلك أيضاً الى ارتفاع خطر الانتحار لدى الاشخاص الذين يعانون من اضطرابات الاكتئاب.
ثانياً: كيف يرتبط الاكتئاب بالانتحار؟؟؟
بداية لابد أن نوضح معنى الاكتئاب فهو عبارة عن مزيج من مشاعر الحزن، والوحدة، والشعور بالرفض من قبل الآخرين، والشعور بقلة الحيلة والعجز عن مواجهة مشاكل الحياة. لذلك نجد أن الانتحار ليس دائما النتيجة النهائية للاكتئاب، ورغم ذلك فإن الاكتئاب غير المعالج يزيد من احتمال الأفكار والمحاولات الانتحارية. فعندما يعاني الشخص من الاكتئاب الحاد، تراوده أفكار بإلحاق الضرر بنفسه ولكنه لا ينفذها بسبب نقص الطاقة لارتكاب الفعل، ولكن عندما يتصاعد مستوى الاكتئاب مع زيادة مستويات الطاقة ففي تلك اللحظة قد ينفذ الأمر فعلا ويحاول الانتحار.
ثالثاً: علامات السلوك الانتحاري/
رغم أنها ليس واضحة إلا أن هناك علامة معينة من علامات السلوك الانتحاري وهي تحدث الشخص بجدية عن الرغبة في إيذاء نفسه، ولكن أخطر هذه العلامات هي وجود محاولات سابقة للانتحار. لذلك فهمنا لهذه الآفة الخبيثة وأبعادها وتعزيز الثقة للأشخاص هذا مطلب وقائي حتى نحافظ على أبنائنا من عدم الإقدام على مثل هذه الأمور فهناك صفات تتشابه إلى حد كبير مع صفات الاكتئاب، فإن ظهرت في الشخص يكون عرضة للوقوع في الانتحار:
*شعور دائم بالحزن والقلق وتعكر المزاج والبكاء الكثير ونقص القدرة على التركيز.
*فقدان الاهتمام والشعور بالمتعة في الأنشطة المحببة للنفس.
*الشعور بالتشاؤم الدائم وقلة الحيلة في مواجهة مشاكل الحياة.
*الشعور بالذنب، وعدم القيمة والأهمية في المجتمع.
*عدم القدرة على إظهار أو تقبل العواطف للآخرين ومن الآخرين.
*مشاكل في النوم مثل الأرق أو النوم لساعات طويلة، أو الاستيقاظ مبكرا.
*مشاكل في تناول الطعام (الشهية زائدة، انقطاع الشهية).
*آلام جسدية مزمنة والتي لا ينفع معها علاج.
*النشاط الزائد وعدم القدرة على الهدوء والارتخاء.
وهذه التغيرات النفسية تحصل عند الشخص حينما يتعرض لضغوطات الآخرين ونجد أن كثير من الأسر وخاصة الآباء والأمهات لم يفهموا التغيرات النفسية الطبيعية عند الأشخاص فكيف سيفهمون التغيرات النفسية الغير طبيعية، لذلك عندما نرى هذه العلامات علينا أن نبحث عن الآثار النفسية المترتبة عليها والأسباب التي أدت إليها وطرق الوقاية والعلاج، ومن الممكن في أحسن حالات الشخص يعبر عن الاكتئاب والحزن الشديد التي يمر به من ضيق صدر للآخرين ولكن بعد ذلك تتطور المرحلة إلى تفكير في الانتحار وقد يصل الشخص إلى البحث عن الوسيلة والطريقة الأمثل وقد يستهزأ البعض ويعطيه الطريقة بكل سهولة.
رابعاً: التوجيه الشرعي النفسي للانتحار/
أن الشخص حينما يشعر بالانتحار والرغبة في ذلك فإنه يسأل فيأتيه التوجيه العام أن هذا حرام ؟؟؟؟؟؟ وهذا كذا ؟؟؟؟؟؟ وقد يسمع الآيات والأحاديث التي دلت على حرمة ذلك وهذا توجيه جيد. لكن يجب أن يضاف إلى ذلك التوجيه النفسي، لأنه التوجيه العام لم يكن كافياً، حتى بالفتوى الدينية لأن الشخص كما ذكرنا حصل على الفتوى الدينية بمعاني التحريم. لكن درجة الايمان لدى الشخص أقل من مستوى هذه الفتوى، فربما التذمر النفسي من شدة الاكتئاب لديه حطمت درجات الايمان فأضعفتها فلم يكن بمستوى الفتوي الإيمانية الكريمة التي قُدمت إليه، إذاً الفتوى من العلماء والمشايخ وأهل العلم هي جزء من العلاج وليست العلاج وحده للتخلص من الانتحار، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: " ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ". قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ ". قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: " اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " قَالَ : فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
فالتوجيه النفسي يسأل لماذا أنت راغب بالانتحار وهل هذا منشأ مرض الاكتئاب أم أمراض أخرى محددة ومعينة أم هي ردة فعل، لأن تحديد سببية الانتحار من أهم الأشياء لهذه الظاهرة وهنا لابد أن نسأل أنفسنا سؤالاً مهم هل حرق النفس أو القتل شنقاً بسبب الظروف الاقتصادية أو السياسية أو حتى المجتمعية هل هو اضطراب نفسي أم أنه حادث عرضي. لأنه قد يكون بسبب مرض نفسي وهو الاكتئاب وقد يكون بسبب اضطراب بالشخصية الغير سوية، ويجب أن نعلم حقيقة مهمة أن الشخص السوي لا ينتحر مطلقاً، فالانتحار يكون بسبب مرض عقلي أو حالة نفسية عابرة ويحتاج إلى وقاية وعلاج بكافة الوسائل.
خامساً: تقديم الدعم النفسي للشخص المتوقع منه الانتحار:
*يمكن لفهم مخاطر وعلامات الاكتئاب والانتحار أن يحدث فرقاً و يمنح المريض فرصة الحصول على المساعدة والبقاء على قيد الحياة، ولابد أن نعرف أيضاً أن المشكلة ليست بالشخص المنتحر وإنما المشكلة في الأسرة الغير مؤهلة لفهم الانتحار وفهم سيكولوجية الشخص السوي ولم يكن للأسرة دور في تربية هؤلاء الأشخاص وذلك لأن كثير من الآباء والأمهات يقومون بتربية الأشخاص بالوراثة دون أن يفهموا النمو الطبيعي النفسي للأفراد.
وهنا لا أتحدث أن يصل الجميع إلى مرحلة يكونون فيها أطباء نفسيين أو معالجين للأمراض النفسية ولكن أريد أن يصل الأفراد إلى مرحلة يتعرفوا من خلالها على الفرق بين السواء واللاسواء وأن يتعرفوا أيضاً على الحاجات الأساسية للأفراد وكيفية جعل الآخرين يشعرون بالتقبل والثقة في الأسرة والمجتمع.
سادساً: الوقاية من الانتحار المرتبط بالاكتئاب/
لمنع الانتحار لابد من الاعتراف أولاً بوجود مرض الاكتئاب، والاستعداد لتلقي العلاج المناسب حيث أن العلاج النفسي والأدوية لعلاج الاكتئاب هي الخطوات الرئيسية نحو الوقاية من الانتحار، كما يمكن إنشاء شبكة دعم آمنة تتكون من الأصدقاء المقربين والعائلة الذين هم على استعداد لسماع المريض لأن الحديث عند حدوث أفكار انتحارية يكون مفيدا.
سابعاً: علاج الانتحار/
لابد أن نعلم جيدا أن علاج الانتحار بحاجة الى أربعة حلقات وصل وهي:
• الشخص نفسه.
• الأسرة.
• المجتمع (المؤسسة العلاجية).
• الفتوى من العلماء وأهل العلم والاختصاص.
وتعتبر الاضطرابات النفسية وخاصة ظاهرة الانتحار ذات تعقيد متى فُقدت إحدى هذه الحلقات كان ذلك عائقاً أمام العلاج، لأن وجودها مهم لكي نصل بإذن الله عز وجل الى تقديم أفضل الخدمات العلاجية. أما علاج هذه الظاهرة فعن طريق التالي:
أ) زيادة الجرعات التوعوية اللازمة لأفراد وفئات المجتمع عن طريق مختلف الوسائل الإعلامية والتعليمية. لبيان خطر جريمة الانتحار وبشاعتها وما يترتب عليها من نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة سواءً على الفرد أو المجتمع.
ب) محاولة تفهم الظروف والأسباب التي قد تدفع بعض أفراد المجتمع إلى محاولة الانتحار، ومن ثم العمل على مد يد العون لهم، ومساعدتهم في حلها. وبذلك يتم القضاء على أسباب هذه الظاهرة ودواعيها بإذن الله.
ج) التمسك بمبادئ وقيم وتعاليم وتوجيهات التربية الإسلامية الصحيحة، والعمل على تطبيقها في واقعنا المعاصر لما تُقدمه من حلولٍ ناجحةٍ لجميع المشكلات والظواهر السلبية في المجتمع.
د) إخضاع الظواهر السلبية في المجتمع للدراسة والبحث حتى تُعرف أسبابها ودواعيها، ومن ثم تبدأ خطوات الوقاية منها، وإيجاد العلاج المناسب لها.
وفي الختام، أسأل الله تعالى أن يحفظنا جميعاً من كل شر، وأن يوفقنا إلى طاعته، وأن يرزقنا حياةً طيبةً، وأن يختم لنا بخاتمةٍ حسنة، وصل الله وسلم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية