من هو شاعر المنافي عبد الوهاب البياتي؟
يقف الإنسان حائرا عندما يأتي بمخيلته اسم عبد الوهاب البياتي أمام عدة خيارات : الشاعر ، والثائر ، والرحّال، والرائد ، والمجدِّد، والموسوعيّ.
يعد عبد الوهاب البياتي الشاعر والأديب العراقي (1926- 1999)، من الأربعة الذين أسهموا في تأسيس مدرسة الشعر العربي الجديد في العراق "رواد الشعر الحر" وهم : نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وشاذل طاقة.
عمل في التعليم والصحافة، وتنقل بين بغداد مسقط رأسه، والكويت والبحرين، وسوريا، بيروت، القاهرة، إسبانيا، الأردن وأمريكا، ثم عاد للأردن ومنها إلى سوريا إلى أن توفي.
"أقوم بعد الموت" - عبد الوهاب البياتي
"أقوم بعدَ الموتِ في كلّ جيل"، وإنّ حقيقة هذه الجملة اليوم لا خلاف فيها، بل ثمة إجماع على صدقها وحميميتها، لشاعرٍ هائل وضخم" تتردّد هذه الجملةٌ من شِعر البياتي الذي ضمّ العالم في كلماته، وكان مُتّهماً بالنرجسية في شخصيته.
يبلغ عدد الدراسات والكتب ومشاريع التخرّج ورسائل الماجستير والدكتوراه المكتوبة عن الأديب عبد الوهاب البياتي وشعره أكثر مما كتبه هو في حياته، وليس من سبيلٍ إلى حصرها، ولا سيما أنّ الكتابة عنه بدأت في خمسينيات القرن الماضي، أي في آخر العشرينيات من عمره.
تعتبر دراسة إحسان عباس "البياتي والشعر العراقي الحديث" عام 1955، هي أول الدراسات عن الشاعر، المعروف بأنه واحد من 4 روّاد أسسوا لمدرسة الشعر العربي الجديد في العراق، تلاها عددٌ كبير من الدراسات أبرزها: "عبد الوهاب البياتي رائد الشعر الحديث"، لنهاد التكرلي وآخرين، عام 1958.
وتوالت الدراسات، بعضها تقرأ شعرالأديب عبد الوهاب البياتي بشكل عام، بكل ما فيه من رمز وأسلوبية ورؤيا وتصوف والتزام، وبعضها تختص في جزءٍ من شعره أو تقتصر على قراءة ديوان واحد له، وتتناول فيه صورة المرأة أو التراث أو الشخصيات التاريخية أو الذات والآخر.
هذا الامر يقتصرعلى أنّ عبد الوهاب البياتي يتنقل من ديوان لآخر، و"كأنه يتنقّل من مدينة لأخرى، ومن أنثى لأنثى، ومن دهر لدهر، ويستعيد أسرار الملوك الغابرين، والعشّاق المحترفين والمولودين بعشقهم، والعُبّاد والفقراء والصعاليك"، ما صعّب على الباحثين مهمتهم في أن ينظروا إلى كل كتب جديدة لها نظرة شاملة.
وكذلك لأنّ ما يحفل به شعره وما يحمله ويضمنه ويستبطنه ويضمره، وما يخلقه أو يستعيده من كائنات ورموز وأمكنة وأزمنة ومدن وهياكل ورقم طينية، أعصى من أن يُجمَع في دراسةٍ واحدة أو نظرة واحدة.
كما قال البياتي واصفا نفسه، كيف كان يكتب الشعر: "إذ كلما انتهيت من كتابة قصيدة أشعر أنني سحابةٌ أمطرت كلّ ما عندها، وظلّت تنتظر موسماً آخر لكي تستعيد عافيتها فتمطر من جديد".
إن معظم الدراسات التي كُتبت عنه شارك فيها أكثر عدد كبير من الباحثين والدارسين، إلى أن تخصصت بعض الدراسات لتتناول جزءاً من حياة البياتي نفسه، سواء في إسبانيا أو العراق أو الأردن أو سوريا، ولا سيما ما اصطُلح على تسميته بنتاج المرحلة الإسبانية، إذ صار البياتي وقتها محسوباً على الأدباء الإسبان.
تجربة عبد الوهاب البياتي الشعرية
كتب البياتي عن تجربته الشعرية كتاباً يحمل اسم "تجربتي الشعرية" عام 1968، ثم كتب سيرته الذاتية والشعرية مجدداً في كتاب "ينابيع الشمس" في السنة التي مات فيها، طاوياً الصفحة الأخيرة من حياته.
سيرة الشعر فيها قسيمة مع سيرة الذات، سببها أنّ البياتي عانى من هاجس أنّ ما لم يُذكر (من قبل) يبقى هو الأهم. "وإنّ المرء ليظل مأخوذاً بالجديد المسكوت عنه أو الهامشي المحال خارج الاستدعاء بسبب الانهماك بالأساسي المألوف الذي كثيراً ما يستحب الوقوف عنده".
كتب الشاعر والاديب عبد الوهاب البياتي عن تجربته الشعرية كتاباً يحمل اسم "تجربتي الشعرية" عام 1968، ثم كتب سيرته الذاتية والشعرية مجدداً في كتاب "ينابيع الشمس" في السنة التي مات فيها، طاوياً الصفحة الأخيرة من حياته.
"ينابيع الشمس" هو القول الفصل للبياتي عن البياتي، منذ اللحظة التي وُلد فيها حتى اللحظة التي انتهى عن الكتابة فيها، أي بعد 73 سنة، اكتشف فيها أنّ الكتابة في العالم الثالث "عذاب وليست ترفاً"، لأنّ الكاتب عندما يتصوّر أن الكتابة مجرد كلمات وطموح نحو إبداع محض تتحوّل في مثل هذه الحالة إلى خدوش باهتة في سطح الواقع الفاسد.
"وعندما يتجاوز العالم الثالث محنته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والكونية، فإنّ قاموس الكلمات يظلّ إحدى هيروغليفيات أو مسماريات هذا العصر الذي غرقنا في طوفانه الأسود ولا بدّ من تصحيح الأمر، فما يظن أنه قاموس شتائم هو ليس كذلك، بل إنه قاموس أوصاف للعور والخصيان والطواويس"، يقول البياتي.
أما كلمات قاموس عبد الوهاب البياتي، كما يصفها، فهي "أسلحة في وجه الليل والشر والذل الكوني وضد الطغاة الصغار الذين يعيقون مسيرة البشرية وطموح الإنسان نحو تحقيق العدالة والحرية والديمقراطية لكنّ هذا القاموس لم يستغرقني شاعراً وإنساناً، بل إنه يمثّل جزءاً صغيراً جداً من عالمي الشعري".
إنّ المنافي البعيدة التي تنقّل عبد الوهاب البياتي فيها، من بغداد إلى القاهرة مروراً بمدريد وموسكو إلى بيروت ومحطته الأخيرة دمشق، أو ما يسميه "المنفى الكامل"، جعلته غريباً عن كلّ شيء إلا عن الشعر كما أنّ ترجمة أعماله إلى لغاتٍ كثيرة، غير أنها دليل على كونيتها وإنسانيتها، جعلت الشاعر الفرنسي لويس أراغون يكتب في مجلة أدبية يرأس تحريرها: "عبد الوهاب أعظم شاعر عراقي عربي معاصر".