عادت الصحف الإسرائيلية ووسائل الإعلام والسياسيون في إسرائيل لإغراق المتابعين والمراقبين بتقارير عن اقتراب التطبيع مع السعودية، وهي الحملة التي يديرها بنيامين نتنياهو منذ سنوات. وفي كل مرة تكثف إسرائيل الحديث يبدو وكأن الأمر  قاب قوسين أو أدنى من التحقق في ظل صمت سعودي شبه تام. وفي لحظة من اللحظات يعطي انطباعاً بأن القرار في الأمر هو إسرائيلي فقط مع تجاهل تام للشريك المفترض.

الشريك المفترض هنا ليس دولة هامشية، بل وطرأت تغيرات هائلة في إدارتها للسياسة خلال العام الأخير وهي تبتعد عن صورة الدولة التي جرى التعامل معها باستخفاف في عهد ترامب حين كان حديث نتنياهو يبدو كأن التحاقها بقطار التطبيع مجرد تحصيل حاصل بعد اتفاقيات البيت الأبيض قبل ثلاثة أعوام.

السؤال الحائر: لماذا تندفع الإدارة الأميركية بكل هذا الثقل لتقديم هذه الخدمة الكبيرة جداً لنتنياهو الذي تنتظر سقوطه؟ فبعد نجاح الديمقراطيين في الحكم تعاطت إدارة بايدن بأن ما جرى من عملية تطبيعية خاطفة كانت مجرد محاولة من أطرافها لتقديم خدمة لدونالد ترامب بهدف دعمه في الانتخابات التي سقط فيها، ولم تشكل تلك العملية دافعاً للمواطن الأميركي لانتخاب ترامب حتى بين يهود الولايات المتحدة الذين هاجمهم ترامب واتهمهم بالخيانة.

بعد تشكيل ادارة بايدن وتعيين انتوني بلنكن وزيراً للخارجية صدرت منه اشارة تشي بأن التطبيع بلا فائدة إذا لم يدعم عملية السلام، وعاد مكرراً ذلك في تصريحات أكد فيها على أن «التطبيع ليس بديلاً لحل الدولتين». وقد قامت ادارة بايدن بتجميد هذا الملف «تركة ترامب» بل وجمدت «صندوق ابراهام» كدلالة على طي صفحة ترامب، وقامت وزارة الخارجية بتعميم التوقف عن استخدام تسمية «اتفاقيات ابراهام» واستبدالها باتفاقيات التطبيع، ثم لتعيد إحياءها بهذا الزخم العام الحالي.

بكل صلف كان نتنياهو يتحدث في لقاء مع شبكة بلومبرغ الأميركية عن رفض فكرة الدولة الفلسطينية وتملص من التعهد بوقف الاستيطان إذا كان ذلك مطلباً سعودياً، رغم أنه قادر على خداع السعودية وبايدن في مسألتي الاستيطان والضم كما فعل مع الإمارات التي اندفعت بلا قيود، وهذا الأمر يتنافى مع الموقف السعودي المعلن الذي عبر عنه وزير خارجيتها فيصل بن فرحان فيما يتحدث نتنياهو أن السعوديين غير مهتمين أصلاً بالملف الفلسطيني في المفاوضات وأن الشروط السعودية تتعلق بأمنها ومصالحها فقط.

هل من الممكن أن تفعلها السعودية وتذهب كما ذهب السادات في زيارته التاريخية لإسرائيل وأثار اندهاش كيسنجر الذي علق قائلاً «كان بإمكانه أن يطلب مقابلاً للزيارة فلماذا قام بها مجاناً؟» وقبل ثلاثة أعوام فعلت الإمارات والبحرين والمغرب الشيء نفسه وقدمت لنتنياهو مجاناً وسط اندهاش المراقبين من خفة العملية، فهل تفعلها السعودية وتضع نفسها محل نفس التساؤلات ونفس المكانة التي تتعارض مع ما تراكمه في السنوات الأخيرة وتغامر بفقدانها للريادة الإقليمية التي تطمح لها؟

صحيح أن القضية الفلسطينية تراجعت وصحيح أن المعايير الإقليمية تشهد تغيراً في الأولويات، لكن تلك القضية تظل الأكثر تأثيراً في المزاج العربي والرأي العام، وجسد مونديال قطر المزاج العربي تجاه فلسطين، ولسوء حظ العرب أنهم يعطون مكانة للتسيد، وبالتالي لا يمكن لمطبع مع اسرائيل أن يطمح لزعامة عربية. سطع عبد الناصر بالقضية الفلسطينية، وتراجع الدور المصري بعد التقارب مع اسرائيل، وتلاشى ارث بن زايد القومي بعد ذهاب الأبناء نحو تل أبيب، وتمددت ايران في العواصم على بساط القضية الفلسطينية. فهل ستتخلى السعودية صاحبة المبادرة العربية عن واحدة من مؤهلات زعامة تطمح لها مقابل إغراءات أصبح لها بدائل بفعل تنوع علاقاتها الدولية، وخصوصاً الصين وتهدئة صراعها مع ايران وتحييدها كخصم اقليمي؟ وهل تقدم هذه الجائزة لأكثر حكومات اسرائيل تطرفاً في تاريخها؟ ولماذا؟

الامر مدعاة كثيراً للشك، ففي إشارة لوزير الخارجية ايلي كوهين جاءت في مقاله الذي نشره أول من أمس في «وول ستريت جورنال» يفرمل فيه اندفاعة نتنياهو وهو يتحدث عن أن الأمر يحتاج إلى ما يقارب العام، وخلاله تكون الدنيا قد تغيرت كثيراً وربما تكون السعودية حصلت على احتياجاتها من شريكها الصيني الجديد لترفع سقف شروطها أكثر لتتعقد العملية أكثر.

بالعودة لإدارة بايدن وما الذي يقف خلف هذا التحول المفاجئ رغم إحباط بلينكن من استسهال الأمر، فإن الجهود المكثفة كانت لافتة بهذا الزخم رغم أنه يتعارض مع مصالح الديمقراطيين الذين يسعون لإسقاط نتنياهو، فكيف سيقدمون له هذه الهدية الكبيرة التي من شأنها تعزيز مكانته داخل إسرائيل؟ والمسألة الأخرى أن الديمقراطيين حاولوا منذ البداية  الاستخفاف بما فعله ترامب، فكيف نجدهم بعد عامين يسيرون على نفس السياسة مقلدين له؟ هذا لو افترضنا أن عملية التطبيع بين اسرائيل والعرب ذات تأثير في قرار الناخب الأميركي، فإن الضغط الأميركي على السعودية لجرها للتطبيع هو تأكيد على صوابية ترامب السياسية وبالقطع لن تكون في صالح بايدن الذي يتجهز للدورة الثانية.

أغلب الظن أن ما يحرك السياسة الأميركية ثلاث مسائل على قدر من الأهمية، الأولى إضعاف السعودية إقليمياً بجرها لهذا المربع بعد أن بدأت تدير سياسة خارج الغلاف الأميركي وتتهيأ لقيادة المنطقة، ففي التطبيع ما يضعف هيبة الدولة، والثانية إبعاد السعودية عن محور الصين وإجهاض علاقتها بإيران التي لن تكون مرتاحة للعلاقة السعودية الإسرائيلية، والثالث هو وضع نتنياهو أمام خيار الإغراء بالتطبيع مقابل التنازل في الملف الفلسطيني، وفي هذا التنازل ما يفكك حكومته قبل أن يتم، فالضم والاستيطان هما خطان أحمران في مكونات الائتلاف وسينهار إذا ما تم الاقتراب منها، وبالتالي تضعه أمام خسارتين إما السعودية أو الحكومة، وإلا كيف نفهم سابقة الانتقادات المعلنة من بايدن لنتنياهو وفي نفس الوقت السعي لمكافأته؟

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد