تعتبر تونس بكل المقاييس نموذجاً مميزاّ من التغيير الذي اجتاح الإقليم العربي على مدى السنوات القليلة الماضية.
لم يكن النظام التونسي السابق على الثورة يختلف جوهرياً عن أنظمة الفساد والاستبداد العربي التي ضربها بركان «الربيع العربي»، ولم يكن النظام التونسي مختلفاً في قمعه للحريات وفي التحالف الذي قام في معظم بلدان الإقليم العربي ما بين الرأسمال والأمن، وكبار رجال الدولة والأعمال.
ولأن مسألة التغيير كما ثبت بالوقائع الملموسة في كامل المنطقة العربية مسألة منوطة بدور القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وبقوة الدولة ورسوخها في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي على حد سواء، وكذلك بنمط المجتمع المدني وبدرجة قوة الإسلام السياسي في البلد المعين باعتبار أن قوة الإسلام السياسي هي القوة الرئيسية التي تمتلك كل مقومات إحداث التغيير والمشاركة في توجيه دفة التطورات.. فإن التجربة التونسية تميزت في أربع خصائص كبيرة هامة وحاسمة إلى درجة كبيرة.
الأولى، رفض الجيش التدخل لصالح نظام بن علي بصورة مباشرة وأصبح واضحاً اليوم أن الجيش قد ضمن الخروج الآمن للرئيس، كما ضمن الإشراف على الانتقال السلمي للسلطة بإيحاء من الغرب وبتشجيع مباشر من هذا الغرب أحياناً.
ومنذ لحظة رفض الجيش التدخل لصالح النظام السابق انهارت (الإدارة والسياسة) لأجهزة الأمن المدربة على القمع والتنكيل، وشعر أصحاب القرار الأمني آنذاك أن خوض معركة فاصلة مع الجمهور أصبحت مستحيلة بدون الجيش، بل ويقال أيضاً (وهذا ما ستكشفه الأيام) أن الجيش «نصح» أجهزة الأمن بالتعقل بصيغة هي أقرب إلى التهديد على الرغم من أن المؤسسة العسكرية التونسية لم تكن على ذلك القدر من القوة والسمعة والمهابة.
وخلاصة القول هنا فإن الجيش كما كان عليه الأمر في مصر «ضمن» الانتقال السلمي للسلطة «وحيّد» أجهزة الأمن ومنع تحول عملية التغيير إلى حرب داخلية واسعة.
سنلاحظ فيما بعد أن موقف الجيش في كل من مصر وتونس لصالح عملية التغيير (بغض النظر عن درجته) كان حاسماً وهاماً في توجيه دفة التغيير.
الثانية، هي «العقلانية» النسبية التي أبداها حزب النهضة في المرحلة الأولى من الثورة حيث أن الجناح القطبي في هذا الحزب لم يكن هو الجناح المسيطر حتى وإن كان له بعض التأثير في بعض الفترات من تلك المرحلة.
ولأن حزب النهضة بغض النظر عن طموحاته الاستئثارية قد «أعطي» فرصة الحكم بعد فوزه الكبير في الانتخابات التشريعية فقد اضطر إلى التراجع عن تلك الطموحات قبل فترة انتهاء ولاية مجلس النواب، اجبر بحكم الواقع على القبول بمبدأ الشراكة والتخلي عن مبدأ المغالبة الذي كان يدغدغ عواطف الكثيرين من أعضاء الحزب.
يدور في الأدب السياسي نقاش جاد حول تجربة حزب النهضة وخصوصاً في الإجابة عن السؤال التالي:
هل كان تراجع حزب النهضة وتحول أفكاره باتجاه القبول بالمشاركة مسألة اختيارية طوعية أم أنها كانت مسألة إجبارية فرضت على حزب النهضة؟
وتأسيساً على هذا السؤال يطرح اليوم في الأدب السياسي في تونس وفي دول المحيط السؤال التالي:
هل كان ذلك مراجعة أم تراجعاً ولماذا؟ كما طرح السؤال بصيغة أخرى وهو فيما إذا كانت المراجعة قد أفضت إلى التراجع أم أن التراجع هو الذي أدى إلى ضرورة المراجعة؟ وخلاصة القول وفيما يتصل بخصوصية التجربة التونسية هو أن الإسلام السياسي المنظم الممثل أساساً في حزب النهضة قد راجع وتراجع وأخذ فرصته وفشل، واستدرك الواقع ولم «يركب رأسه» وعاد اليوم قوة سياسية كبيرة ولكنها مجرد قوة تتموضع في المنطقة الفاصلة بين المشاركة والمعارضة دون أن يشكل ذلك عبئاً خاصاً على استقرار النظام السياسي في تونس.
أما الثالثة، فتتعلق بقوة المجتمع المدني في تونس. لقد ثبت اليوم أن المجتمع المدني في تونس وعلى الرغم مما عاناه هذا المجتمع من قيود ومن قمع لحرياته ونشاطاته في مراحل مختلفة قد شكل سداً منيعاً في وجه القوى التي حاولت أن تستثمر أحداث الثورة باتجاه الأسلمة أو الإرهاب أو تغيير القيم العلمانية في بناء الدولة والمجتمع في تونس.
ولعلّ قوة النقابات المهنية والعمالية في تونس كانت السبب الرئيسي وراء الاغتيالات التي طالت النشطاء السياسيين والاجتماعيين والنقابيين، ولعل توجه الإرهاب نحو اغتيال هؤلاء النشطاء هو بمثابة شهادة على دورهم المميز وعلى قوة تأثيرهم في الحياة السياسية والاجتماعية في تونس.
دافع المجتمع المدني عن نفسه في معركة الدستور وفي إعادة تثبيت التعددية والحفاظ على المكتسبات الاجتماعية والسياسية للمجتمع التونسي مستنداً إلى التفاف قطاعات جماهيرية واسعة حول تلك المكتسبات وخصوصاً في قضايا المرأة والشباب والحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي ناضل المجتمع المدني للتحصّل عليها.
وأما الرابعة، فهي الدولة «الدستورية» البورقيبية في تونس.
تعتبر الدولة التونسية الدولة الثانية بعد دولة مصر من حيث رسوّ قاعدتها الدستورية ومن حيث معالم الحداثة في بنائها، ومن حيث عدم قدرة السلطة السياسية على «بلع» الدولة وتحويلها إلى ملكية خاصة بالسلطة السياسية.
البورقيبية كانت إنجازاً عظيماً من زاوية تثبيت أسس مبكرة للحداثة ومن حيث رفع سوية الثقافة والتعليم ودور المرأة في الحياة الاجتماعية في البلاد. وكانت البورقيبية سلاحاً قوياً في مواجهة قوى الظلام ولكنها لم تكن كافية للوقوف في وجه الاستبداد والفساد، ولهذا فإن عملية التغيير التي حصلت في تونس منذ بداية الثورة وحتى اليوم مازالت تتمحور حول هذين الأمرين وحول مشروع التنمية لتخليص البلاد من مشكلات الفقر والبطالة والفوارق الاجتماعية الكبيرة بين الريف والمدينة، وبين سواد العاملين وبعض فئات الطبقة الوسطى وبين الطبقات الميسورة المتنفذة في تونس.
خلاصة الأمر كله هو أن النموذج التونسي أصبح أحد النماذج الهامة من الزوايا التالية:
1) يُبنى مشروع الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية بموافقة أو مساهمة أو مشاركة الإخوان أو حتى باعتراض دستوري ومعارضة عاقلة.
2) الدولة التونسية الجديدة ليست مدعومة مباشرة من الجيش وإنما وأساساً من قوى سياسية مدنية ومن مجتمع مدني نشط وزاخر بالعطاء.
3) إن الإخوان في تونس سحبوا كل غطاء سابق عن الإرهاب وهم يتبنون مشروع مقاومة ومكافحة هذا الإرهاب.
4) تجاوزت تونس بسبب «عقلانية» الإخوان كل عقبات الانجرار إلى تدمير الدولة والمجتمع في حين انخرط الإخوان في الإقليم في صلب هذا المشروع في معظم الحالات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية