مرّت قبل أيام ذكرى ميلاد الروائي والسيناريست المصري أسامة أنور عكاشة (1941 - 2010) ، والذي بدأ مشواره الأدبي بعد هزيمة عام 1967، وأجاد أدب الرواية وفن الدراما، وصنّفهُ النُّقّاد أعظم كاتب دراما عربية. وقد تجسّدت في أعماله خلفيته الناصرية، وثقافته الاشتراكية، ومبادؤه الثورية، ومواقفه الرافضة للانفتاح الاقتصادي والسلام مع الكيان الصهيوني في عصرَي السادات ومبارك، فانعكست جميعها على أعماله الدرامية بمضمونها الثقافي المقاوم لاتساع تمدد رأس المال وتوحشه، وانتشار القيم المادية وتغوّلها على حساب المستضعفين والأخلاقيين. 

المضمون الثقافي المقاوم لأدب ودراما عكاشة قدّم نموذج البطل الفارس الفرد الذي يُصارع طواحين الهواء، رمز الشر، واعتمد فكرة البطولة الفردية التي تقاوم الاحتلال الأجنبي، والاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي، والظلم الاجتماعي، والفساد الأخلاقي.

ويعتبر مسلسل "رحلة السيد أبو العلا البشري" تجلّياً لهذا النموذج ولهذه الفكرة، فقد رسم عكاشة شخصية البطل – أبو العلا البشري – على صورته، وكلاهما – الكاتب والبطل – قدّما نموذجاً للشخصية الدونكيشوتية، نسبةً إلى رواية "دون كيشوت" الذي صارع طواحين الهواء مُحارِباً الشر، وحمل سيف الفروسية مُدافعاً عن الخير. 

أبو العلا البشري موّظف حكومي قرر التقاعد المبكر ليقوم برسالة الإصلاح في المدينة، متأثراً بما قرأه من كتب العلوم الإنسانية، ومندفعاً بفكرة بناء المدينة الفاضلة، فغادر قريته إلى القاهرة مبتدئاً بأقاربه الذين قهرتهم متطلبات الحياة المعاصرة وطغيان الثقافة المادية الانتهازية؛ فتغيرت أفكارهم وقيمهم مثل معظم أفراد المجتمع في المدينة المعاصرة، وسعى إلى أن يُعيد الأمور إلى نصابها ويُحقق حُلم المدينة الفاضلة، ورفض كل محاولات زملاءه للبقاء في الوظيفة والتخلّي عن رسالته التي تنبأوا بفشلها، وقال لهم: "الزمن طول عمره بيتغير من قديم الأزل لكن الأخلاق ما بتتغيرشي، مش لازم نسيب الشر يغلب الخير، لازم نغير الظروف... أنا هسيب الوظيفة وأنا مبسوط عشان اؤدي الواجب الأكبر؛ رسالة الإصلاح التي وهبتها نفسي".

خاض أبو العلا البشري في القاهرة تجربة إصلاح مليئة بالإخفاقات جعلته يُصاب بالإحباط؛ فقرر العودة إلى قريته ليعيش حياة العُزلة فيها؛ بعد أن توّصل إلى نتيجة خلاصتها ما قاله لصديقه: "أنا غلطت في الميعاد، ركبت القطر الغلط وتهت، ولو فضلت راكب نفس القطر هتوه أكثر من الأول، عشان كده لازم أنزل أول محطة وآخذ القطر الراجع، ارجع لبلدي اللي بدأت منها".

وعندما وصل إلى قريته يدخل في مأزق نفسي وعقلي عميق، محوره سبب الإخفاق وجدوى الإصلاح وسُبل الخلاص، عاش خلاله صراعاً نفسياً وجدلاً عقلياً، انتهى بمخاض فكري عميق أوصله إلى ولادة الحقيقة والخلاص، التي قدّمها أُسامة أنور عُكاشة في قالب مؤثر، أعاد فيه مدرس التاريخ من زمن المدرسة ليرشد أبو العُلا البشري إلى الحقيقة التي فيها الخلاص. 

ظهر مدرّس التاريخ حاملاً بيديه رواية "دون كيشوت" أمام أبو العُلا البشري، في ذروة مأزقه النفسي والفكري، وفي لحظة يأس أعلن فيها نهاية رسالته الإصلاحية: "الحكاية خلصت خلاص". فرَّد عليه مدرس التاريخ "الحكاية مخلصتش"، وأضاف قائلاً: "كل اللي حصلك وحصل بسببك ثمن بسيط لمحاولة نبيلة، ده قدَر أصحاب الرسالات... وأنت صاحب رسالة رفضت النوم والكسل والراحة، وقمت عشان تقاوم الشر وتنادي بعودة الفضيلة والأخلاق الحميدة". وبعد حوار طويل أرشدهُ إلى الحقيقة التي فيها حل المأزق وطريق الخلاص، الحقيقة الكامنة في البطولة الجماعية وليس البطولة الفردية، والانطلاق من الذات وليس من تجارب الآخرين. 

طريق الخلاص الكامن في البطولة الجماعية عبّر عنه مدرس التاريخ بقوله لأبي العُلا البشري: "الزمن مش زمن الفارس الوحيد الذي يقدر بسيفه ورمحه يهزم الأشرار... لازم كل فرسان الخير يبقوا مع بعض جماعة، هو ده المفتاح وكلمة السر"، كما أرشده إلى الحقيقة الأُخرى كي تنجح رسالة الإصلاح، وهي كما قال: "إحنا غلطانين عشان بنأخذ قوانين جاهزة وبنحاول نفصّل تجربتنا عليها، وبنحاول نحبس عقولنا جوا قوالب عملها ناس غيرنا، ظروفهم غير ظروفنا وزمنهم غير زمنا". فالتغيير والإصلاح يكون بالاستفادة من تجارب وأفكار الآخرين، بعد وضعها في إطار الأصيل والصواب والنافع من تراثنا وثقافتنا. 

محاولة الإصلاح لأسامة أنور عكاشة من خلال تصويره لشخصية أبو العُلا البشري في قصة المسلسل، تشبه محاولة "دون كيشوت" التي تحمل الاسم نفسه للأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، التي ترجمها إلى اللغة العربية الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، فكتب في مقدمة الكتاب متحدثاً عن "دون كيشوت" أنّه: "رمز النبالة الساعية إلى خير الإنسانية؛ ولكن وسائلها العاجزة لا تستطيع تحقيق أمانيها، رمز للمثال الأعلى الإنساني الذي يصطدم بالواقع الكالح دائماً فينتهي بالإخفاق، ولكنه إخفاق أعظم من كل نجاح عملي ومادي وواقعي لاصق بالطين... إنَّهُ صوت العدالة العُليا تصرخ في عالم حافل بالمظالم... مليء بالظلم والنفاق والخديعة والوضاعة والتملّق والوصولية والأمعية". 

عاش أسامة أنور عكاشة يصارع طواحين الهواء، مثلما عاش بطله أبو العلا البشري وقبلهما دون كيشوت.. رجل حالم بالفضيلة في زمنٍ غرق أهله في وحل الرذيلة، رجل باحث عن المثالية بين أُناسٍ غاصت أرجلهم في طين المادية، رجل يبشّر بالحرية والعدالة والمساواة والحب في مجتمع تحكمه أنظمة سياسية مُتخلّفة، رسّخت الاستبداد والظلم والتفرقة والكراهية في المجتمع المنكوب بالفقر والبؤس والتعس. 

مات أسامة أنور عكاشة ولم تمتَ أفكارهُ المقاومةِ للاستبداد والفساد، والرافضة للظلم والاستغلال، والمعارضة للاستسلام والتطبيع، مات من دون أن تصرعه طواحين الهواء، وتركنا لطواحين الهواء نصارعها وتصارعنا، لعلنا ننتصر في نهاية مسلسل الصراع بين الخير والشر، إن لم يكن من خلال هزيمتها فعلى الأقل من خلال النجاح في إنقاذ أرواحنا من التحطيم والاستلاب، وإنقاذ عقولنا من التغييب والتغريب، وإنقاذ نفوسنا من الهزيمة والانكسار.

 

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد