بقلم : د. وليد القططي 
قام مجموعة من الباحثين في علم النفس بجامعة ستانفورد الأمريكية عام 1971م بتجربة شارك فيها (24) متطوعاً من الأصحاء جسمياً وعقلياً ونفسياً تم اختيارهم من بين عشرات المتطوعين،، المشاركون في التجربة قُسّموا إلى نصفين متساويين ليلعبوا دور السجانين والسجناء وضِعوا في مبنى بُنيَ خصيصاً ليكون كالسجن الحقيقي، وأُعطيَ المشاركون الذين قاموا بدور السجانين صلاحيات واسعة لإدارة السجن، فتقمصوا دور السجانين بسرعة كبيرة، واتبعوا أساليب سادية في التعذيب النفسي والجسدي وتمادوا في إلحاق الأذى ضد المشاركين الذين لعبوا دور السجناء، التجربة أُوقفت بعد (6) أيام من بدئها وقبل الوقت المحدد لإنهائها لأسباب أخلاقية. 
تقمّص دور السجان ضد السجين في تجربة جامعة ستانفورد هو قريب من لعبة مصارعة الموت بين العبيد في عهد الإمبراطورية الرومانية القديمة، عندما كان السادة الرومان يستمتعوا بمشاهدة مباريات المصارعة على الحلبة بين الأسرى الذين استعبدوهم التي تنتهي بقاتل ومقتول، والقاتل يصبح مقتولاً في مباراةٍ لاحقة، وهكذا تستمر دورة الموت اللانهائية وصراع الضحايا الأبدي بين العبيد خدمة للسادة الجلادين في لعبةِ موتٍ أبدية يوزع فيها السادة الأدوار على العبيد فيلعب بعضهم دور الضحية وبعضهم دور الجلاد. 
تجربة ستانفورد الأمريكية ومصارعة الموت الرومانية يعيشها العالم بأشكالٍ مختلفة بدون سجن للتجربة أو حلبة للمصارعة، فمسرح الحياة في الواقع يزدحم بنماذج يتحوّل فيها بعض الضحايا إلى جلادين بالوكالة خدمةً للسادة، ويتحوّل فيها بعض المستضعفين إلى مستكبرين بالإنابة تقرّباً للطغاة، وفي هذه الحالة تصبح الكوميديا سوداء يختلط فيها الجد بالهزل، والحزن بالسخرية، والبكاء بالضحك... ذلك بأنَّ السجين فيها ينقلب سجاناً، والضحية تلبس عباءة الجلاد، والمقهور يتقمص دور القاهر، والمغلوب يقتدي بسلوك الغالب، والمستضعف يتماهى بشخصية المستكبر، والمُعتدى عليه يتوّحد بصفات المعتدي، والمقتول تسكنه روح القاتل. 
تجربة السجن بين السجين والسجان، وصراع الضحايا بين القاتل والمقتول، بنسخة الكوميديا السوداء الفلسطينية أكثر سواداً من النماذج الأخرى في العالم، حيث تختلط فيها المأساة بالملهاة، وتلتبس فيها الخيانة بالوطنية، وتشتبه فيها المهانة بالكرامة... وقد بدأت النسخة الفلسطينية لصراع الضحايا في طباعة نماذجها من الكوميديا السوداء بعد اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، عندما تحوّلت الكتلة الأساسية في الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك إلى (السلطة الفلسطينية) بالنموذج الإسرائيلي وليس بنموذج (السلطة الوطنية) الوارد في برنامج النقاط العشر المرحلي لعام 1974م. 
انتج النموذج الإسرائيلي للسلطة الفلسطينية كياناً سياسياً مشوّه الملامح غير مُحدد المعالم، غادر محطة الثورة ولم يصل إلى محطة الدولة، وخرج من مرحلة الحكم الذاتي الانتقالية ولم يدخل أي مرحلة أُخرى. حُددت له وظائف أمنية ومدنية وسياسية تُرسّخ الاحتلال وتزيد الاستيطان، أهم أدواتها (التنسيق الأمني) بمخرجاته من الاعتقال السياسي والملاحقة الأمنية ضد المقاومة. وهو ما ظهر بوضوح بعد معركة (بأس جنين) وزيارة السيد محمود عباس للمدينة، التي تبعها قيام أجهزة أمن السلطة بحملة اعتقالات وملاحقات ضد المقاومة خاصة كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. 
الاعتقال السياسي والملاحقة الأمنية الذي تقوم به أجهزة أمن السلطة في إطار (التنسيق الأمني) جعلها تقوم بدور السجّان في تجربة جامعة ستانفورد الأمريكية ودور القاتل في مباراة مصارعة الموت الرومانية، وهذا الدور أخرجها مع تكرار القيام بالدور ومرور الزمن عن السياق الوطني والحركة الوطنية للشعب الفلسطيني وعزلها عن المشروع الوطني الفلسطيني الهادف إلى التحرير والعودة والاستقلال، وحصرها في مشروع خاص بالنخبة المتنفذة في السلطة هدفها الاستفادة من امتيازات السلطة المادية والمعنوية على حساب مصلحة الشعب الفلسطيني وأهدافه الوطنية في الخلاص من الاحتلال. 
لإعادة السلطة الفلسطينية إلى السياق الوطني لتصبح جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية ومكوناً أساسياً في المشروع الوطني الفلسطيني، ينبغي البدء بتصويب الفكر السياسي الفلسطيني القائم على نهج التسوية وتقاسم فلسطين الذي أنتج اتفاقية أوسلو وسلطة تحت الاحتلال، والعودة إلى الفكر السياسي الوطني القائم على نهج المقاومة والتمسك بكل فلسطين لإعادة الوحدة الوطنية على أساس مشروع الصمود والمقاومة والتحرير والعودة. ليتم فتح الطريق أمام تغيير وظائف السلطة المُحددة إسرائيلياً إلى وظائف وطنية تخدم المشروع الوطني للعودة إلى مفهوم (السلطة الوطنية) اسماً ومضموناً. 

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد