كما كانت فلسطين على مدار قرن من الزمن ضحية الإعلام الغربي والصياغات الجاهزة التي بثتها الصهيونية في الرأي العام في الغرب ولدى دوائر الدول، فإن واقعنا الفلسطيني الداخلي ضحية إعلام وخطاب مضلل يتلاعب به بعض أبناء جلدتنا وبعض القوى الخارجية من أجل الحفاظ على واقع الانقسام الذي صار بقرة مقدسة لا يمكن المساس بها.

الواقع السياسي الفلسطيني ضحية لهذا الإعلام الذي يتحرك في كل الاتجاهات ويتعامل بوجوه مختلفة وفق كل قضية يتم تناولها ويتمتع بحرية كبيرة في العمل في فلسطين لا يتمتع بها في بلاده مثلاً.

بالطبع الإشارة لبعض الفضائيات العربية التي لا تجرؤ على ذكر بعض القضايا التي تخص بلدان منشئها مثلاً وتتبجح في «دحش» أنفها في كل تفصيلة وصغيرة وكبيرة في حياتنا السياسية.

وثمة حاجة لمراجعة واقع الإعلام الفلسطيني وواقع الإعلام في فلسطين وهما موضوعان مختلفان بالطبع ومتكاملان في آن.

صحيح أن بلادنا بحكم الاحتلال مرتع لكل التدخلات ولكل العواصم وللأسف واقعنا المنقسم يوفر الفرص الكثيرة لذلك وتعامل البعض منا يوفر فرصاً أكثر، ولكن أيضاً أن يتم تركها فريسة لكل الخطابات السياسية والإعلامية فهو أمر بحاجة لإعادة النظر دون المساس بالحريات الإعلامية ولكن حتى الدول التي تزعم أنها مدافعة عن القيم والمثل والتي يتم وصفها في تعريفات الدراسات بأنها نموذج للديمقراطية تمارس نوعاً من الضوابط التي تجعل الحرية متاحة للجميع وليست متاحة لجزء من الشعب على حساب الجزء الآخر.

ما يجري عندنا أن الحرية بفعل الضوضاء والهرطقة صارت متاحة للبعض على حساب الآخرين. فمن يردح ويسب ويستخدم وسائط التواصل بنجاعة ويقيم موقعاً محمياً في دول استعمارية فلا تتم ملاحقته يمكن له أن ينتقد ويعهر الآخرين ويمس شرفهم وينشر ما شاء محتمياً إما بما توفره له الدول التي تستضيفه شريطة أن يكون همه الأساس المساس بالجبهة الداخلية ولا يتدخل فيما لا يعنيه أو مستخدماً خطاباً شعبوياً يمكن أن يحوله إلى بطل إن تم المساس به.

الأصولية الوطنية تشبه الأصولية الدينية. كان إدوارد سعيد يتحدث عن أصولية العلماني الذي ينكر على الآخرين تدينهم فهو يشبه المتدين الذي ينكر على غير المتدينين عدم ممارستهم للشعائر الدينية. عندنا ربما أكثر أصولية هي الأصولية الوطنية فالكل يخون الكل، وأسهل شيء أن تتهم الآخرين بوطنيتهم ببساطة لأنك تزعم الوطنية من «ساسها لراسها» كما يقول المثل.

هؤلاء كثر في حالتنا الفلسطينية ويستخدمون كل ما يتوفر لهم من أجل أن يحتكروا مفهوم الوطنية التي تعني ببساطة ما يقومون به وما يقومون به هم بمعنى حتى لو قام غيرهم به فهو ليس أمراً وطنياً. هو أي شيء آخر إلا أنه وطني.

الخطاب الشعبوي خطاب غامض لا يشير للواقع ولا للحقيقة بشيء بل يعتمد على التضليل وعلى تقديم صورة مغايرة للحقيقة تدغدغ مشاعر المتلقي وعادة ما يميل الشعبويون لاستخدام الأفكار الرائجة والسائدة في متن خطابهم من أجل أن يبدو ما يقولونه مقنعاً وهم بذلك يهربون من التعامل مع المشاكل ومع الواقع سواء ويجنحون إلى رسم عالم مختلف أقرب للحلم والتمني، وهم بذلك يتطاولون على الحقيقة وينتهكون خصوصيات خصومهم وأعراضهم ويتهمونهم بكل ما يمكن أن يجعل من أكاذيبهم منفذاً سحرياً للآخرين.

والتاريخ هو أكثر ضحايا الشعبويين إذ إنه يتم استخدامه بطريقة تسيء لمجرياته من أجل خلق واقع مختلف.

وفيما يضلل الديماغوجي الآخرين فإن الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه، لذلك فإن الشعبوي أيضاً ضحية خطابه.

يصعب الفصل رغم ذلك بين الشعبوية والديماغوجية وحتى الأيديولوجيا لأن الكثير من تعريف هذه قائم على التطرف. فالمغالاة في الشيء تفقده جوهر أصالته. وفيما يمكن للفرد أن يعتقد ما يشاء فإنه ليس من حقه أن ينفي عن الآخرين هذا الحق.

إن الأصولية قائمة على هذه الفكرة التي تجعل فكرتك أصيلة وتعيب على الآخرين أن يفكروا بغيرها. لقد كانت الحياة السياسية دائماً ضحية صعود الشعبويين وربما الديمقراطيات المبكرة ماتت في مهدها لأن التيار السائد انجرف وراء خطاب شعبوي.

وتجارب الشعوب مليئة بمثل هذه الحوادث من ديمقراطية أثينا حتى الإعلام الموجه في الكثير من الدول.

غياب الثقافة الوطنية القائمة على التفاهم والحوار هي سبب الكثير من كل ذلك.

ومن يتحمل المسؤولية في كل ذلك هو الفصائل الوطنية غير القادرة على صوغ خطاب وطني مشترك يعمم ثقافة التسامح الداخلي والحوار المشترك.

للأسف فإن أول ما يغذي هذا الشقاق هو الإعلام الحزبي الذي هو يعتمد على التشويه والتجريح. للأسف هناك حالة تطرف غير مسبوقة في المجتمع غذاها بشكل أكبر توفر وسائل التواصل سريعة الانتشار.

هناك حاجة لتصويب الإعلام الفلسطيني خاصة الإعلام الحزبي والفصائلي حيث يمكن للمرء أن يظن الأمر قضية حياة أو موت لدى بعض الإذاعات والفضائيات المحلية حيث يتم تغليب الخطاب الاقتتالي على أي محاولة للتفاهم.

كما أن فتح حوار وطني شامل حول أخلاقيات المهنة أيضاً لابد أن يشمل الفلسطينيين العاملين في الفضائيات العربية الكبرى التي تساهم أكثر من غيرها في تدمير النسيج الأخلاقي والوطني من خلال انحيازها وتقاريرها التي تغذي الشقاق والخلاف الداخلي. المصلحة الوطنية يجب أن تكون فوق الجميع ولا يمكن أن يتم ترك البلاد لنهش الإعلام الموجه والزائف والخطابات الشعبوية الهدامة التي تمس الوحدة الوطنية وتمس تطلعات شعبنا.

وضعنا لم يعد يحتمل وما وصلنا له من حال لا يمكن أن يخدم المصلحة العامة.

تصوروا كيف تم تحويل لحظة انتصار إرادة شعبنا في جنين وصمود المخيم الأسطوري إلى لحظة خلاف وشقاق بفعل الإعلام الموجه.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد