كل تجربة تحرر وطني، على مر التاريخ الإنساني، يتوجب لها أمرين لا ثالث لهما من أجل دفع عجلة المشروع الوطني، بوصلة وطنية تحدد المسار الكفاحي مهما طالت السنين ومهما كبُر الهم ومهما عظُمت التضحيات، وحاضنة شعبية تتفاعل مع القرار الكفاحي وتنسجم معه وتتعايش مع متطلباته مع توفر الإيمان بعدالة القضية والاستعداد الدائم للتضحية من أجلها، وبوجود هذين العاملين يصبح الموقف الوطني في مأمن، ويصبح المشروع قيد الإنجاز وتبدو ملامح الانصهار الجماهيري في بوتقة الكفاح مميزة، وبالتالي يكون إعمال هذا المشروع ووضع مقتضياته في مسارها الصحيح مسألة وقت ليس إلا.
كانت الجماهير الفلسطينية منذ انطلاق المشروع الكفاحي منخرطة كلياً في إطار الفكرة، وكانت مستعدة للتضحية بكل شيء في سبيل المبدأ والغاية، وعززت موقفها ودعمته بخوضها لانتفاضتين متتاليتين دون أن يطرف لها رمش ودون أن تلين لها قناة، ومن ثم استطاعت أن تثبت للقاصي والداني أنها أهل لتولي زمام المبادرة في كل حين، وفي غزة على وجه التحديد لم تكتف الجماهير بمواصلة مشروع الصبر والصمود ومشروع العمل الانتفاضي المقاوم، بل واجهت برجولة وبطولة وبعناد يحسدها عليه الصديق قبل العدو ثلاثة حروب متتالية واجهت فيها أعتى قوة في منطقة الشرق الوسط، وهي مؤمنة أن الشعوب إذا هبت ستنتصر.
قاتل شعبنا الطيب على مدى عقود وهي مؤمن أن قيادته تضمن له صحة مسار البوصلة طيلة الوقت وعدم الانحراف قيد أنملة عن المشروع الكفاحي العادل، ولكن مع حالة التيه السياسي التي نعيشها اليوم فإن ضمانة أن تسلم الجماهير زمام الأمر لقيادة تتصرف بردة الفعل وسلوكها السياسي مرهون بتكتيكات تصيب وتخطئ واجتهادات قلما أصابت، بدأت البوصلة تفقد إحداثياتها، وبات الناس على وعي بأن المشروع كله بات في مهب الريح، ومع كثرة الظلم الذي يتعرض له الناس في قطاع غزة، والتضييق الذي يمارس عليهم في حياتهم اليومية من قبل السلطات الحاكمة، بدأت الحاضنة الشعبية للمقاومة تتداعى، والسبب هو السلوك اليومي لجماعات الحكم التي لا يهمها سوى ضمان السيطرة على شؤون الناس حتى لو دفع ذلك كله الناس إلى البحث عن كل مخرج وسبيل يفضي إلى هروب لا عودة بعده، فلماذا تكافأ الجماهير الصابرة بعد كل هذه التضحيات بكل هذا الكم من الغبن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي لا طائل منه سوى استمرار عمر حكومات لأشهر أو لسنوات، طالما أن النتيجة الحتمية أن يصرخ الشعب في وجه من يسلبه قوته اليومي ويقول "لا" عميقة بحق كل من قاسمه لقمته بالخداع السياسي تارة وبالبطش تارة أخرى.
الشعب الفلسطيني بحاجة اليوم إلى من يعيد تصويب بوصلته، وأن يعيد الكرة إلى ملعب المحتل والمجتمع الدولي تجاه كل هذه المعاناة، ولا يلتفت إلى منجزات وهمية صنعتها إرادة المحتل والمجتمع الدولي الظالم، ويحتاج الشعب كذلك إلى من يعيد المقاومة إلى حاضنتها الشعبية من خلال قرارات تدعم صمود المواطن ، وتعزز إرادة العيش على من يريدون لنا أن نحيا بثقافة الموت على مدى سني عمرنا، وأن يعيد الثقة بين المقاوم والناس الذين يدفعون الثمن، لا من يحمل الشعب "جميلاً" لأنه ذاد عنه في الملمات والخطوب، نريد قرارات تعيد وضع النقاط على الحروف وتعيد التوازن في المشهد وترسخ أن القضية الوطنية هي قضية الكل الوطني على قاعدة مشاركة الهم ومشاركة المصير وقبل ذلك وبعده مشاركة المعاناة والصعاب الحياتية وتحمل مسؤولية الانجاز والإخفاق وصولاً إلى بناء دولة العدالة والحرية والمساواة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد