استكمالاً للنقاش السابق فإن غياب رواية تاريخية فلسطينية تتعلق بكتابة تاريخ البلاد وطريقة عرضه ومقولاته المؤسسة انعكس أيضاً على الكتابة السردية الفلسطينية، إذ غاب عن المشهد وجود كتابات روائية تدور أحداثها في التاريخ القديم مستندة إلى ما هو متوفر من معلومات تاريخية موثقة ومؤصلة مدعومة بأبحاث ميدانية ولقى أثرية.
إن هذا الغياب أصاب بشكل كبير فرص تطور رواية فلسطينية ليست تاريخية فحسب، بل أيضاً فرص نمو فن الرواية الفلسطينية بشكل كبير.
كان يمكن لوجود هذا العمق في الكتابة التاريخية أن يوفر فرصاً مهولة تعمق الكتابات السردية الفلسطينية وت فتح آفاقاً أخرى تتم الاستفادة منها فنياً بجانب ما يمكن أن تمد به الحقل التاريخي من مواد أخرى.
المنفعة مزدوجة الحواف. فمن جهة فإن توفر كتابات تاريخية وأبحاث في التاريخ الوطني يساهم في إثراء الكتابة الروائية الفلسطينية إذ إن الروائي بحاجة لمواد مختلفة عن الحياة حتى يكتب عنها. فهو لا يستطيع أن يكتب عن حقبة تاريخية إذا لم تتوفر لديه حدود بسيطة من المعلومات التي تعطيه صورة كاملة عن طبيعة الحياة في المجتمع الذي يكتب عنه قبل ألف عام أو قبل ثلاثة آلاف عام أو حتى قبل مئتي سنة.
وحين تكون المعلومات غير متوفرة فإنه يستعصي عليه أن يقوم بالكتابة عن المجتمع في تلك الفترة لأنه مثل من يطير داخل الماء لا يسبح في الفضاء.
إن الكتابات التاريخية ليست مجرد تاريخ. صحيح أن وجود سردية تاريخية فلسطينية يساعد في تعزيز مطالبنا السياسية إذ إنه يكشف زيف ادعاء الغزاة ويقدم مرافعات قانونية وعلمية حول الحق الفلسطيني رغم أن حقنا غير قابل للتشكيك أو للنقاش، ولكن أيضاً وجود هذه الدراسات التاريخية وهذا البحث في عمق التاريخ سيقدم تصورات متكاملة حول المجتمع الفلسطيني في كافة مراحل وجوده من الحقبة النطوفية ووجودنا الكنعاني والفينيقي والفلسطيني وما صاحب ذلك من اكتشافنا لشواطئ المتوسط وإقامتنا حضارات هناك والاختلاط مع الحضارات الأخرى خاصة اليونانية والبابلية والفرعونية مروراً بظهور المسيحية في البلاد ثم الإسلام ثم الحضارة العربية بحقبها المختلفة حتى الحكم العثماني وبعد ذلك الاحتلال البريطاني.
القصة ليست سرد حكاية تاريخية، رغم أن هذا أمر واجب وضروري لأننا بحاجة لأن نقول لأحفادنا من هم وكيف وجدوا هنا وكيف استمر وجودهم رغم كل مؤامرات الدول الكبرى لإزالتنا، ولماذا نجحنا في الصمود في هذه البلاد منذ قرابة عشرة آلاف عام، ولكن أيضاً نحن بحاجة لدراسات حول شكل الحياة في بلادنا. كيف شكل المدينة الكنعانية وكيف كانت شوارعها وكيف تطورت هذه المدينة عبر العصور حتى وصلت إلى الشكل الذي نعرفه الآن، خاصة أن الكثير من المدن لم ينقطع عنها التواجد البشري منذ وَطِئ أجدادنا الأوائل البلاد خاصة المدن الكبرى والتاريخية.
هذا يتطلب توفير معلومات ليس فقط عن المباني وعن شكل العمارة والقرية ومواسم الزراعة وملامح الاقتصاد والصناعات البدائية وطريقة المبادلات التجارية، وهذه كلها يجب أن تتوفر، ولكن أيضاً عن الأسعار والملابس وبعض الحكايات الحقيقية عن العلاقات بين المدن والقرى والجوار والخلافات المجتمعية.
صحيح أن تاريخنا التراثي يزخر بمئات القصص من تلك الحقب خاصة تراثنا الموسيقي من دبكة وغناء وزجل بأنواعه، وصحيح أن صناعاتنا التقليدية متوارثة من تلك الحقب خاصة التطريز والقشيات والصناعات الخشبية والصدف والبسط وغير ذلك، ولكن من المهم أيضاً أن يتوفر الكثير من المعلومات التاريخية عن جوانب مختلفة من الحياة تجعل إعادة بعثها أمراً ممكناً.
وبقدر ما أن هذا مهمة الباحثين فهي مهمة الدولة أيضاً. دول العالم تعد موسوعات مختلفة ومتعددة عن جوانب الحياة في بلادها خلال الحقب المختلفة حيث يمكن للباحث أن يعرف أسعار السلع خلال تلك الحقب كما نوع الصناعات التي كانت متوفرة خلالها. وبعض هذا أو ربما كثيره يستند إلى تفريغ الوثائق والمستندات المتوفرة وهذا يتطلب بحوثاً جبارة من أجل الوقوف العلمي أو الأقرب للصواب حول تلك المعلومات. وهو أمر بالمناسبة ليس مستحيلاً لكنه بحاجة لمكانة بحثية إذ إن بعض المعلومات قد توجد في أقل الوثائق أهمية لكنه يغدو مهماً حين يتم وضعه في سياقه الصحيح.
مثل هذه الموسوعات يجب أن تتوفر ويجب أن تتأسس على فهم صحيح لأهمية توفر هذه المعلومات والبيانات.
إن من شأن توفر هذه المعلومات أن يغني الكتابة الروائية الفلسطينية ويقدم فرصاً كبيرة للكتّاب والروائيين من أجل إعادة تصوير المكان والحياة والمجتمع والعلاقات في البلاد عبر العصور المختلفة. وبذلك يتحقق الطرف الآخر من المنفعة حيث توفر الروايات الفلسطينية التي تقع أحداثها في عمق التاريخ مصادقات فنية لما يتم سرده في متن التاريخ علمياً. وبذلك يتكامل التاريخ مع الواقع. إن مهمة الرواية السردية هي بعث الحياة ونفخ الروح في الحجارة والقصص الجافة من أجل جعلها تنطق وتتحدث لأطفالنا وبناتنا وبذلك يمكن لهم أن يعيشوا زمن أجدادهم وهم يقرؤون قصة حب وقعت بين شاب من عاقر وفتاة من يافا قبل أربعة آلاف عام فبذلك يعيشون داخل زمنهم المستعاد.
للأسف أبعد ما يمكن أن تذهب إليه روايتنا هي الحقبة الاستعمارية البريطانية وهي بذلك تلاحق الخطاب السياسي التقليدي الذي يجعل من ظهور الصهيونية بداية نشوء الوطنية الفلسطينية وهذا أمر خاطئ.
بعض الكتابات الروائية بدأت مؤخراً تلفت لأهمية ذلك، مثلاً كتب باسم رعد بالإنجليزية رواية فلسطينية قديمة كذلك فعل عبد الجبار عدوان في «حافة النور» ومحمد نصار في «عبدو هيما» ولكنها أيضاً روايات بحاجة لسند تاريخي ولمعلومات أكثر من «عامة» كتلك المتوفرة في هذه الروايات. كما أن بعض الروايات بدأت بملامسة التاريخ في القرن التاسع عشر وهي أكثر بقليل ولكن هذا لا يكفي، ولا يكفي حين يتعلق الأمر بشعب كل صراعه «رواية».
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية