تقول السيدة «أم رضوان عمرو»، وهي أحد أبرز المرابطات في المسجد الأقصى: تُركنا و القدس نواجه مصيرنا وحدنا..!
ويبدو لي أن السيدة محقة في حُكمها القاسي. فتراجع الجو النضالي المواجه للسُعار الإسرائيلي، وتلكؤ القوى وعجزها عن إدارة المواجهة مع الاحتلال، جعلته يسترسل في مواصلة سرقته العلنية للعاصمة، بينما نحن سادرون في ممارسة ترف التحليل والتشخيص غير المرتبطين بمتطلبات المواجهة العملية على الأرض. فكان من نتائج سياستنا، ابتعاد الشقة بين طرفي المعادلة، المشروع الصهيوني الكامل وبين مقاومته ومواجهته على الأرض، إعاقة، كبْح، ومنع استقرار وثبات الوقائع، لاستنهاض الكل المقدسي والفلسطيني عامة، في معركة مفتوحة ضد السطو والتفريغ.
وتقول «نادية» زوجة الشهيد «غسان أبو الجمل»، الذي استشهد بعد تنفيذه عملية في كنيس «هار نوف» في القدس الغربية: «بعد العملية بساعات قليلة، اتخذت محكمة العدل العليا قرارا بإلغاء تصريحي ومعاملة لمّ الشمل الخاصة بي، وبُلِّغت بقرار يقضي بإبعادي مع أولادي الثلاثة الى قرية السواحرة الشرقية، انتقاما من زوجي. نحن ضائعون».
تبعات القرار تعني أن أبناء الشهيد؛ علاوة على حرمانهم من والدهم، سيحرمون من دخول القدس حتى بلوغهم السادسة عشرة عاما، أي موعد خروجهم من وصاية والدتهم حسب القانون الإسرائيلي، دون ضمان عودة هويتهم المقدسية بعد مرور عشر سنوات، بالنسبة للولد الأكبر على الأقل. لقد فقدت العائلة مقومات الحياة بتشتيت شمل أفراد الأسرة وابعادهم عن مسقط رؤوسهم، إغلاق منزلهم في «جبل المكبّر» بواسطة الاسمنت المسلح، وحرمانهم من حقوقهم في التأمين الصحي والوطني.
تزوير وتفريغ القدس بكل الأشكال والوسائط بلغ نقطة غليان لم يعد ممكنا تخطيها. اننا أمام لوحة أقل ما يقال فيها أنها لوحة سيريالية. فالقدس مدينة تقف على الحافة من جميع الاتجاهات، والمقدسيات على رأس بنك أهداف الاحتلال وسياساته التهجيرية، فاقتلاع المرأة يعني اقتلاعا ميكانيكيا للأطفال، ويعني سحب الدسم النضالي من النزوع الفطري للنساء تجاه التواصل العائلي والاجتماعي.
انهم يضعون العقبات امام حرية الحركة، وأمام حرية الزواج، فطرفا عقد الزواج سيفكران الف مرة بتبعات الزواج المختلط قبل الإقدام عليه..والمقصود بالزواج المختلط ليس على صعيد اختلاط الزواج بين الأديان المتعارف عليه، بل على الصعيد الجغرافي، زيجات واسعة بين أبناء وبنات القدس مع أبناء وبنات فلسطينيي مناطق 48 والضفة الغربية و غزة ، كل ذلك يستدعي التفكير به وبعواقبه وحساباته وتدبره..الاحتلال يتدخل في غرف نوم الفلسطينيين، من أجل القمع المسبق لخيارات تشكيل عائلة، حرية اختيار الشريك والتدخل في حرية الإنجاب وفي تحديد عدد أفراد العائلة. فليس متاحاً الإنجاب على غاربه، فلا احد يريد جلب المتاعب لنفسه او توريثه، علينا تذكر مخاوف «غولدا مائير وقلقها من الإخصاب الفلسطيني.
انهم أيضا يقمعون الأحلام، قمع مجرد التفكير بملكية آمنة للمنزل. قمع بواسطة سياسات عنفية صامتة، ليس في جعل الحياة في القدس لا تطاق فقط، بواسطة العقبات القانونية والمادية، بل في تدمير أي أمل في إمكانية التغيير والحلم بمستقبل أفضل. فمن خلال النساء تتم عمليات عنف متعمد ومنهجي وصامت، بوضع النساء أمام ضغط جسدي ومعنوي هائل باستخدام العامل الأنثوي..وأمام سياسة العصا والجزرة كما اصطلحت على تسميتها المناضلة المرابطة «أم رضوان».
المقدسيات، يرون بأعينهن الحقائق المجردة. واعيات للفوارق ايضا بين تعاملنا وتعامل الاحتلال مع القضايا الرئيسية. الاحتلال يضع الهدف ويتبعه بالوسائل والآليات المادية للتنفيذ، انهم يفتحون حرباً شاملة وليس مجرد معركة مجتزأة عن طبيعة المشروع الصهيوني الكامل. بينما نحن، نضع الهدف والوسائل على الورق، ونترك التنفيذ للمواسم والمناسبات التعيسة وللمبادرات الفردية. منطلقين من فكرة أن المواجهة في المستقبل، ونكتفي بحديث متأنق عن لحظة حلول افتراضية شاملة.
ألا نرى مدينتنا تجلس على الحافة، ألا نرى الهاوية التي نسير نحوها مطمئنين الى مرحلة الحلول الشاملة، هل نرى الصورة البانورامية للقدس ونستمر على اعتقادنا انها عاصمتنا الأبدية؟ هل نبقى سادرين في التعامي عن التغيرات..هل الدفاع عن مرجعية القدس نظري أم مشروع نضالي في الوعي والممارسة.. وهل لحكم التاريخ قيمة؟.. وهل نترك القدس وأهلها يتقلّون على فوهة بركان يغلي؟..
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية