إذا صحّت الأنباء القادمة من القاهرة، ومن قطاع غزة ، ومصادر عربية وعبرية ودولية، أيضاً، حول «التفاهم» و»التوافق» بين حركة حماس ، وحركة الجهاد الإسلامي، كلّ على حدة، من جهة، وبين إسرائيل من جهةٍ أخرى، بوساطة نشطة من القاهرة، فإنّ إسرائيل تكون قد حقّقت اختراقاً كبيراً في قطاع غزة، وذلك لأنّ هذا «التفاهم» وهذا «التوافق» يقضي ويقتضي إنهاء (الأعمال العدائية) بين الطرفين، ويشترط أن يتمّ الالتزام بمتطلّبات هذا «التفاهم»، وهذا «التوافق» لفترةٍ طويلة نسبياً قد تصل إلى سبع سنوات، وهي لن تقلّ عن خمس سنوات حسب كل المصادر المعنية.
الاختراق الإسرائيلي سيكرّس إضافةً إلى الهدوء التام، إنهاء شكل الانقسام الحالي، وواقع الانفصال القائم إلى شكلٍ جديد، بحيث يتحوّل هذا الانقسام، وهذا الانفصال الجديد إلى «صيغةٍ متفاهم عليها» فلسطينياً، وإقليمياً، وحتى دولياً، بحيث تبدو معه الأمور وكأنّها نهاية لما كان قائماً من انقسام وانفصال، وبداية لتعايشٍ رسمي فلسطيني بين الكيانين، (في الضفة الغربية وفي قطاع غزة)، ولـ»تفاهمات» على «تقاسمات» للأدوار بين هذين الكيانين، تحت وابلٍ من الشعارات حول الوحدة، وحول المصالح الوطنية، وحول مواجهة الأخطار والتحدّيات!
ولسخرية القدر فإنّ «التفاهمات» بين كلّ من «حماس» و»الجهاد» من جهة، وإسرائيل من جهةٍ أخرى تحتاج إلى أشكالٍ من (التعاون والتنسيق) بين سلطة «حماس» في القطاع، إذا أرادت أن «تتفاهم» مع كل من مصر وإسرائيل على «ترتيبات اقتصادية ومعيشية»، وعلى «دخول عشرات آلاف العمّال»، وإلى «تصدير واستيراد السلع» وكذلك «الخدمات»، فإنّ جزءاً من هذه الحركة كلّها، وجزءاً من الترتيبات لا بدّ من موافقة السلطة الوطنية في الضفة عليها، ليس فقط باعتبارها السلطة الشرعية المعترف بها (إسرائيلياً وإقليمياً ودولياً)، وإنّما، أيضاً، لأنّ عدم التفاهم معها سينزع عن سلطة القطاع أيّ شرعية، وستبدو «حماس» في حالة إن استمر الانقسام كما هو اليوم، وكأنّها سلطة عميلة للاحتلال، وتقيم كيانها على حساب السلطة الشرعية المعترف بها.
وبالمقابل، إذا بقيت أمور الانقسام والانفصال (الفعلي) كما هي عليه، وبما أنّ السلطة الرسمية ليس بمقدورها تغيير الواقع في القطاع، لا بالقوّة، ولا بالانتخابات «طالما أنّ هذه الانتخابات ليست بالحسبان» فإنّ وجودها في قلب هذه «الترتيبات» أفضل لها من رفض التعامل مع هذه «الترتيبات»، خاصّة وأنّ كلا من مصر وإسرائيل في حال إن رفضت السلطة الرسمية هذه «الترتيبات» ستحاولان التوصل إلى نفس هذه «التفاهمات» دون أن تعتبرا ذلك من الناحية «النظرية» في مواجهة السلطة الرسمية، ودون أن تعتبراه موجّهاً ضدّها.
أمّا إذا سُمح لسلطة «حماس» باستخدام أحد الموانئ المصرية، وأصبحت غزة تقوم «بتجارتها» مع الخارج عَبر هذه الموانئ، فإنّ مصر تكون عملياً قد بدأت بالفعل بتجاوز السلطة الرسمية، وهو أمرٌ ترفضه مصر رفضاً تامّاً إلّا على اعتبارات غير رسمية، ومؤقّتة الطابع، ما يعني أنّ مصر ستضغط باتجاه «التفاهم» بين الكيانين.
كما أنّ مصر، وربما إسرائيل لن تسمحا باستثمار الغاز في مياه غزة دون موافقة السلطة الرسمية، وحسب الاتفاقيات الموقّعة بين هذه السلطة والشركة البريطانية للغاز، ما يعني أن «التفاهم» بين الكيانين قد بات ضرورياً.
لن يعترف المجتمع الدولي ولا الإقليمي بـ»التفاهمات» التي تأتي أخبارها تباعاً، إلّا باعتبارها «تفاهمات» مؤقتّة وانتقالية، وإذا ما كان هناك من رغبةٍ إسرائيلية أو «حمساوية»، أو حتى مصرية بترسيمها فإنّ مشاركة السلطة الرسمية تصبح إجبارية، بل وحتمية إذا أُريد لها أن تكون «رسمية» أو «شرعية».
هذا كلّه من جهة. أمّا من جهةٍ أخرى فإنّ إنهاء (الأعمال العدائية) لن «يتوطّد» دون تخفيف «القبضة» الإسرائيلية عن الضفة، ودون أن «تُراعي» كلّ من حركتي «حماس» و»الجهاد» أنّ استهداف القوات الإسرائيلية، وكذلك المستوطنين في الضفة سينسف هذه «التفاهمات» عاجلاً أو آجلاً، ما يعني أنّهما باتتا بحاجةٍ ما إلى «التفاهم» مع السلطة الرسمية في الضفة، بل و»التفاهم» مع الأجهزة الأمنية فيها على حدودٍ «معيّنة»، لكي لا يتمّ نسف هذه «التفاهمات»، وهو ما يعني «ضرورة» الاتفاق على أشكالٍ «معيّنة»، في مواجهة الاحتلال بل إلى ضرورة أشكال معينة لحدود «اللعب» في المعادلة الداخلية في الضفة، وهو أمر ستقابله «تفاهمات» «معيّنة» حول نفس هذه المسائل في القطاع نفسه.
إذاً، هناك اعتبارات إسرائيلية تقف خلف الموافقة الإسرائيلية على هذه «التفاهمات»، وخصوصاً محاولتها لتحييد القطاع في أيّ مواجهةٍ محتملة مع «حزب الله» في لبنان، أو مواجهةٍ شاملة مع سورية، والأهمّ المواجهة التي يمكن أن تنفجر مع إيران في أيّ لحظة، هذا إضافةً إلى درجة التوتّر الداخلي في إسرائيل.
صحيح أنّ مواجهات من هذا القبيل، وعلى هذا المستوى الإقليمي الشامل لن تكون قيداً مطلقاً على إسرائيل، ولا على «حماس» أو «الجهاد»، لكن إسرائيل ترغب بألا تؤدّي المواجهة مع إيران إلى دخول القطاع على خطّ المواجهة.
وهناك اعتبارات مصرية تقف خلف هذه «التفاهمات»، وقد لا تلتقي بالضرورة، وقد لا تنبع من الاعتبارات الإسرائيلية أو الإيرانية، وإنّما اعتبارات مصرية خاصة نابعة من خشيتها بعودة الإرهاب إلى سيناء في حال إن بقيت الأمور في القطاع مفتوحةً على الانفجار الشامل.
أمّا اعتبارات سلطة الأمر الواقع في القطاع، واعتبارات السلطة الرسمية الفلسطينية فهي واضحة وضوح الشمس، وكلا (السلطتين) بحاجةٍ ماسّة إلى هذه التفاهمات طالما أنّ إنهاء الانقسام، والانفصال بالمعنى الذي ظلّ قائماً حتى اليوم لم يعد بالإمكان الوصول إليه، وقد لا توجد الرغبة أصلاً بوضع حدٍّ نهائي له بالوسائل الديمقراطية، أو كنتيجة لتفاهمات وطنية نابعة من تراجعات ومراجعات جادّة للنتائج الكارثية التي ترتّبت على هذا الانقسام.
ربّما سنكون أمام صيغةٍ جديدة من حكومةٍ جديدة، عُليا وإشرافية على حكومتين وسلطتين منفصلتين تلعب فيها الحكومة العليا، أو الإشرافية دور المنسّق العام، وربما سنكون أمام انتخاب أو تعيين مجلسٍ استشاري لكلّ سلطة يقوم بدور «تشريعي» محدود ومحدّد، وربما سنكون أم حلول عملية لبعض المشكلات المزمنة الخاصة بالقطاع، وربما سيتم «التفاهم» على حُزَمٍ ضريبية موحّدة، وعلى تحصيل القيمة المضافة، أو أموال المقاصة، أو غيرها من السياسات الاقتصادية التي سيكون من شروطها وجود أجسام مُوحّدة أو هياكل بينها درجات عالية من التنسيق، ربما سنكون أمام تفاصيل كثيرة من هذا القبيل، لكن كلّ ذلك سيكون من حيث الجوهر بمثابة ترسيم للانفصال، لأنّه سيكرّس مبدأ (السلطتين، والشرعيتين)، والانقسام والانفصال هو ليس سوى ذلك بالضبط.
وبالمناسبة فإنّ «التفاهمات» الجديدة «ستُنحّي» مسألة الخلافات والاختلافات «البرنامجية» جانباً، وسيصبح الحديث عن «التنسيق الأمني»، وبرامج المساومة وبرامج المقاومة مجرّد تراث سياسي، وربما فولكلور سياسي، أيضاً، لأن المرحلة هي مرحلة «الهدوء الاقتصادي».
وبهذه المناسبة لا بدّ من «جوز كلام» على هيئة وشوشة في آذان «جماعة اليسار»، وكل «الجماعات» التي تدور في فلك حالة الاستقطاب «المرضية» التي تعيشها الحالة الوطنية الفلسطينية.
«أُكِلتُم يوم أُكِلّ الثور الأبيض»، ولم يتمّ، ولن تتمّ استشارتكم في كلّ ما جرى ويجري وسيجري إلّا بقدر ما تكونون أدوات أو أوراقا في لعبة الانفصال بثوبه الجديد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية