كانت مصر عشية ثورة يناير تعيش عصراً خاصاً من الفساد الفاضح على صعيد الإدارة والأداء الاقتصادي وكانت تتفشى ظاهرة تحوّل قيادات الحزب الوطني والدولة إلى طغم مالية، وكانت قد استفحلت إلى حد كبير ظاهرة التقاسم السياسي ما بين الحزب الحاكم وجماعة الإخوان على الصعيد الشعبي العام، وعلى صعيد كل منظمات المجتمع المدني والأهلي والمهني.

عندما قامت الثورة كان الإسلام السياسي بشقيه ـ الرسمي ـ والمتطرف الجهادي يتوثّب "لاستثمار" الأحداث وحركة الاحتجاج الواسعة التي كانت تمتد وتتصاعد إيذاناً بثورة شعبية عارمة.
"الإخوان" وقفوا من حيث الجوهر في المنطقة الرمادية انتظاراً لتطور الأحداث ومسار الثورة ووضعوا رِجْلاً في البور والأخرى في "الحراث" أما السلفيون الجهاديون فقد شرعوا بالإعداد لمعركة الإرهاب القادمة انطلاقاً من سيناء وعلى أن تتحول سيناء إلى قاعدة انطلاق وقاعدة ارتكاز "للدولة" الإسلامية.
في هذه الأثناء، أيضاً، بدأت خيوط التشابك ما بين التنظيم الخاص بالإخوان (وهو تنظيم شبه عسكري وشبه سرّي) وما بين تلك الجماعات المتطرفة وبدأ هذا "الحلف" الجديد يشكل عنوان المرحلة القادمة من المواجهة السياسية والاجتماعية في البلاد.
عندما مالت الكفة لصالح الجماهير في يناير وعندما تخلت الولايات المتحدة عن تحالفها مع النظام وأيدت الاستعداد لبدء مسيرة تحالف جديد مع الإخوان، وعندما رفض الجيش التدخل لصالح مبارك وحسم قراره بأن يضمن الانتقال السلمي للسلطة دخل الإخوان بقوة على خط الثورة وصادروا المجلس العسكري ودخلوا الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وانتزعوا السلطة تحت طائلة حرق القاهرة وتخريب مصر كلها.
كان الحلف الجديد مع الغرب قد أغرى الإخوان بالإقدام على سياسات عقيمة ومتهوّرة من أخونة المجتمع والدولة والاستئثار بكل شيء "قبل فوات الأوان".
وافق الإخوان بل وعملوا على تحويل سيناء إلى ثكنة عسكرية خلفية للسلطة الجديدة في مصر وعقدوا الحلف الجديد على المستوى الداخلي مع كل جماعات الإرهاب وربطوا فيما بين هذه الجماعات وحركة حماس في القطاع، وشرعوا باستراتيجية الاقتحام والاكتساح لكل ما يمت للوطنية المصرية بصلة، بما في ذلك وحدة التراب الوطني ووحدة النسيج الاجتماعي، وصولاً إلى الحرب الشاملة التي أعلنوها على الإعلام والثقافة والقضاء، إضافة إلى رهن مصير الدولة بكل من تركيا وقطر، وصولاً إلى إعلان الحرب على سورية والانخراط التام في مشروع جماعات الإسلام السياسي المدعومة من الغرب والتي أصبحت تجاهر بالاستعداد التام لتدمير الدولة الوطنية وتهديد التراب الوطني للدول وتدمير الوحدة الوطنية القائمة في المجتمعات العربية، والعمل على إعادة هندسة المجتمعات العربية وفق مصفوفات سياسية واجتماعية وثقافية جديدة عنوانها الرئيس هو أولوية الدين على الدولة والوطن وأولوية المذهب الديني على الوطنية والقومية ثم أولوية الحزب الديني والبرنامج الديني على المدني والأهلي، بما يحول مصر في الواقع إلى دولة دينية مستترة ومتخفّية بثياب مدنية مستعارة.
لم يكتف الإخوان بالاستئثار بالسلطة وإنما استفزوا المصريين في دينهم وفي وطنيتهم وفي حبهم لجيشهم، إضافة إلى تفريط الإخوان بالتراب الوطني واستعدادهم للارتهان الكامل للولايات المتحدة وللحلف التركي القطري الذي يمثل المقاول الرئيس لتسويق الإخوان أميركياً وإسرائيلياً على حساب القضايا الوطنية والقومية للأمة العربية وشعوبها وقضاياها وحريتها وحقوقها، بما في ذلك حقوق الشعوب العربية بالعيش الكريم في دولة ديمقراطية حرّة ومستقلة.
وعندما وصلت الأمور إلى تهديد الأمن القومي المصري في الصميم، وإلى تهديد وحدة الوطن والشعب والمجتمع، وتعريض هذه الوحدة لخطر التقسيم والتهشيم و"التضحية" بالدولة المصرية من أجل سيطرة الإسلام السياسي على السلطة السياسية تدخل الجيش بعد محاولات مضنية للذهاب لانتخابات رئاسية جديدة في مصر قوبلت بالرفض المطلق من قبل الإخوان، وقوبلت بالاستهتار بكل ما هو وطني أصيل لدى شعب مصر وجيشها وقواها الحيّة.
لقد قضى الإخوان على أنفسهم بأنفسهم ولم يعد أمامهم إلاّ تغيير النهج بالكامل ـ وهذه مسألة أصبحت اليوم شبه مستحيلة، أو التحالف مع الإرهاب والانخراط في طريق معاداة الشعب والدولة في مصر.
لقد فشل الإسلام السياسي ممثلاً في جماعة الإخوان في مصر في مشروع التحول إلى قوة سياسية واجتماعية دستورية واختاروا طريق الإرهاب والعنف وهو الأمر الذي أدى إلى هزيمتهم غير المسبوقة من ناحية سرعة الانهيار ومن ناحية تداعي منظمات الإخوان.
وبهذا المعنى فإن نجاح ثورة الثلاثين من يونيو واستكمال خارطة الطريق نحو الدولة الدستورية الديمقراطية ونجاح الدولة في مشروع التنمية سيعتبر حتماً النموذج الأهم المطروح على البلدان العربية القريبة والبعيدة. لكن نجاح المشروع المصري الجديد يعني حتماً نجاح هذا المشروع قريباً في ليبيا ومنع تمدد الإسلام السياسي في السودان ومحاصرة ظاهرة الإخوان في قطاع غزة إما بتدجينها أو خنق قدرتها على التمدد أو الإضرار بالأمن القومي في مصر.
إذن الإقليم العربي أصبح أمام خيارات محددة لعل أهمها:
إما الانقسام والتقسيم والتشرذم طالما بقي الإقليم تحت رحمة الإسلام السياسي بجناحيه الإرهابي المباشر أو العنيف المؤهل للانتقال للإرهاب عند أي لحظة قادمة.
أو الذهاب بسرعة فائقة نحو دحر مشروع الانقسام والتقسيم والمسارعة على نحو بناء الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية والتنموية الفاعلة.
أما المراحل الانتقالية بين هذين النهجين، نهج الانقسام ونهج البناء، نهج التدمير ونهج الوحدة، نهج تصفية الدولة الوطنية ونهج إعادة بناء الدولة على أسس مدنية راسخة وديمقراطية... فهي مراحل ستختلف بين بلد وآخر، لكن السرعة في إنجاز هذه المهمة في مصر تحديداً ستعني السرعة في إنجاز هذه المهمة في كامل منطقة الإقليم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد