لا أظنني أبالغ أو أقول الكلام على عواهنه حين أقول إن مصر لم تنتج منذ سنوات طويلة عملاً درامياً على قدر من الوعي والأهمية، الفنية والثقافية، كما فعلت في «حارة اليهود»، العمل الدرامي الذي عرض في رمضان الأخير، ضمن حالة من «الانتفاض» في الإنتاج التلفزيوني، يشير إلى أن مصر عادت بعد سنوات عجاف، من كبوتها، لتقدم قدراً عالياً من الإنتاج الفني الذي تتميز به وتقدمه للجمهور العربي بأسره، خاصة بمناسبة الشهر الفضيل، الذي يجمع أكثر من 300 مليون عربي/ مسلم، أمام الشاشة الصغيرة، كل مساء، وطوال شهر رمضان المبارك بالكامل!
الأمر طبيعي تماماً، فمنذ عقود طويلة ومصر تتميز بإنتاجها الفني، وحتى بعد أن دخل الإنتاج الدرامي السوري كمنافس قبل عقود قليلة، ظلت الدراما المصرية تحتل المكانة الأولى، لكن ومنذ عام 2011، وبسبب ما تعرضت له مصر، كذلك سورية من مشاكل سياسية داخلية، تراجع إنتاجها الفني، خاصة على صعيد الدراما التلفزيونية، لكن من الواضح أن ما حدث لمصر من كبوة الجواد، قد صار وراءها، بدليل ما قدمته عبر الشاشة الصغيرة خلال رمضان الأخير من كم إنتاجي متميز، وصل إلى مستوى رفيع عبر «حارة اليهود»!
أولاً لا بد من الإشادة بالفكرة، التي بحد ذاتها تعيد الاعتبار للوعي العربي، الذي ربما يكون قد فقد اتزانه و»عقله» في السنوات الأخيرة، حين ان فتح التطرف خاصة الطائفي والديني إلى حدود لم تشهدها المنطقة من قبل، والى حدود غير معقولة ولا مقبولة.
كذلك الفكرة بحد ذاتها تعتبر جريئة وذكية، وهي تمثل مراجعة كانت واجبة منذ وقت، لمرتكزات وأساسيات الصراع العربي / الإسرائيلي، ثم إن العمل قدم دراما إنسانية غاية في الجمال والروعة، كذلك من زاوية غير مطروقة من قبل، وهذا ما يضفي على العمل أهمية بالغة، رغم بعض المشاكل والأخطاء الفنية وحتى التاريخية، التي بالغ في تقدير أهميتها البعض، بل وجعل منها نافذة لمهاجمة العمل، محاولاً الظهور بمظهر المهني أو الحرفي، بينما كان الدافع من مهاجمة العمل أو محاولة التقليل من شأنه العظيم، هو موقفه السياسي، إن كان من زاوية الكشف عن حقيقة موقف الإخوان المسلمين في الصراع العربي / الإسرائيلي أو من الثورة الناصرية، أو من زاوية الباعث الاستعماري لإقامة إسرائيل.
حارة اليهود دراما تلفزيونية، تقدم مأساة عائلة اليهودي المصري، الكادح والمكافح والوطني هارون داوود، تاجر المانيفاتورة، الذي توفي كمداً وقهراً في الحلقة الثلاثين، بعد أن انشطرت أسرته نصفين نتيجة إقامة إسرائيل وظهور الصراع العربي / الإسرائيلي، هذا في المتخيل الدرامي، أما في الواقع فكانت عائلة العدل المنتجة للمسلسل تفقد نجمها سامي!
طبعاً قصة العمل الرئيسية ارتكزت على حب كان ممكناً، قبل اندلاع الصراع الناجم عن إقامة إسرائيل بين ابن حارة اليهود العربي / المصري المسلم علي وجارته ابنة الحي العربية / المصرية اليهودية ليلى، وصار مستحيلاً بعد اندلاع الصراع، وهذه إشارة متقدمة في الوعي الإبداعي العربي عموماً، بعد إشارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدة «ريتا»، والتي ضمنها الفنان فراس إبراهيم في العمل الدرامي «في حضرة الغياب»، وجعل منها أحد أهم ركائز العمل الذي عرض أيضاً في رمضان ولكن قبل عدة سنوات.
لكن الإشارة الأهم والتي تدل على نضج درامي لدى الأخوة «العدل جروب» هي تضمين العمل مقولة ثقافية / سياسية في غاية الأهمية، وهي فتح الباب لتخليص حالة الصراع مما علق بها من شوائب ناجمة عن التطرف وخارجة عن السياق الإنساني، حين دفع بليلى للهجرة إلى خارج مصر، ولكن ليس لإسرائيل، بل لفرنسا، وليس للأبد، ولكن إلى حين، أي إلى حين تسوية أو معالجة هذا الصراع معالجة صحيحة تضع له حلاً إنسانياً يستقيم وقيم العدل والعدالة، بأن جعل الباب موارباً، على احتمال أن يكلل الحب بين علي وليلى بالنجاح في يوم من الأيام.
أم علي تقول: شقة هارون هتفضل موجودة، وليلى مصيرها ترجع!
لم يكن أحد من أطراف الدراما، مكتملاً وهذه حقيقة الحياة، فقد ظهر «موسى» كولد عاق ليس لأبيه فقط، ولكن كخائن لبلد عاش وتربى فيه كمواطن، وإن كان قد «جر» أمه معه، إلا أن أباه آثر الموت على فراق مصر، فيما اضطرت ليلى التي كانت أحد أهم ضحايا هذا الصراع، بعد أن فقدت حبها وأباها، وأسرتها كاملة، للهجرة ولكن لفرنسا، كما ظهر حسن ابن خليل الطرشجي كمتطرف إخواني معاد لأبناء حارته على أساس طائفي وبدافع فهم مغلوط للدين الحنيف، أدى به ليس فقط لأن يتورط مع جماعته في حرق محال اليهود ودفعهم للهجرة لإسرائيل وحسب، بل وإلى أن يلحق العار بأسرة الحسيني، حين أغوى فاطمة بأن تلتحق به كهاربين _ بعد محاولة اغتيال عبد الناصر في الإسكندرية _ إلى الصعيد!
كان الترميز واضحاً حين اختار العمل علي وليلى كطرفي قصة الحب التقليدية، فيما نثر المؤلف جملة من القصص المكلمة، كما نثر مفردات الحارة المصرية بشكل رشيق ومشوق، من خلال أسرة الفتوة فتحي العسال وابنته ابتهال، كذلك وجود صحاب المقهى، الطرشجي والفوال، أما اليهود، فكان منهم الجواهرجي «مزراحي» والقماش «هارون داوود» وكان بين هؤلاء المسيحي الأسطى فانوس الموظف الحكومي، الذي شارك في العمل الوطني أيضاً واعتقل من قبل الإنجليز مع معظم أهل الحارة، وأسرته المكونة من الزوجة «تريز» والابنة مريم.
وخارج الحارة كان مجتمع الملهى الليلي الذي تديره المعلمة زينات، كذلك الإنجليز بجنودهم الذين يرتادون الحانة فيكونون صيداً سهلاً للفدائيين، وعملائهم، أمثال «النطاط» والذين كانوا سبباً لتأجيج الصراعات الدرامية التي تنشأ بين أفراد المجتمع لاعتبارات شخصية، لها علاقة بالطموح الشخصي، الذي وصل بأصحابه في نهاية المطاف للموت، كما حدث مع «زهرة» التي وشت بزميلاتها الراقصات اللواتي كن يساعدن في الإيقاع بجنود الإنجليز، والتي قتلتها زينات بذات «النبوت» الذي قتل به العسال النطاط، في إيحاء بتحول الفتوة للعمل الوطني!
نقول إنه رغم وجود أخطاء فنية وحتى تاريخية ناجمة، ربما عن استعجال في تقديم العمل في رمضان، أو ناجمة عن غياب المتابعة النقدية أصلاً لكل الأعمال، أو حتى كانت «مقصودة» أو معروفة ولكن الضرورة الدرامية سمحت بحدوثها، ومن مثل هذه الأخطاء الفنية.
إضافة لما ذكر في الصحف، وفي مقالات سابقة لزملاء, كتاب وصحافيين، كانت هناك الإطالة المملة لمشهد حلق شعر ليلى من قبل المخابرات الإسرائيلية، كذلك ظهور اختلافات في المونتاج بين عرض وآخر، نقصد بين عرض قناة المحور مثلاً وقناة دبي دراما، حيث كانت تظهر مشاهد أو مقاطع مشهديه هنا ولا تظهر هناك، خاصة بين فواصل الحلقات، وحدث هذا في مشهد حلق الشعر الذي تخللته مشاهد لكسر الرتابة من الذاكرة، في عرض واختلفت نفس المشاهد في عرض آخر ، كذلك في الفاصل بين حلقتي 26، 27، ولو قمنا بالتدقيق أكثر لوجدنا العديد من الأخطاء من هذا القبيل في العمل.
وحيث إن المشاهد فجع بوفاة أحد أهم ممثلي العمل، وأحد أركان العدل الجروب، طيب الذكر سامي العدل، والذي كان أداؤه في العمل يدل على حالته الصحية، خاصة حين كان ينطق بصعوبة في بعض الأحيان، ويظهر عليه الإعياء، إلا أن تقديم العمل كان بمثابة خير خاتمة لمشوار الرجل الفني الحافل بالعطاء والتميز.
وكان واضحاً أن العمل تم الانتهاء من تصويره قبل انتهاء الشهر الفضيل، وليس خلاله كما يجري مع بعض الأعمال عادة، وإلا لما ظهر العدل في الحلقات الأخيرة والتي عرضت بعد وفاته بأيام.
لقد تميزت «حارة اليهود» بكرم الإنتاج الذي ظهر في معالجة حقبة زمنية مضى عليها 70 سنة، حيث صور حارة كاملة بكل تفاصيلها، من ذلك سيارة قديمة الطراز، إلى الأغاني وأجواء تلك الفترة، كما أن العمل تضمن تصويراً خارجياً ومعارك وأماكن مختلفة، وكل هذا مكلف، وهذه على غير عادة المسلسلات المصرية التي تعالج قضايا اجتماعية حديثة وداخل الشقق والبيوت المقفلة، فلا يستند العمل على ميزانية إنتاج خارجي أو إخراجي، بل على أجرة البطل / النجم الذي يحمل العمل، وتضمنت «حارة اليهود» إعداداً مشهدياً في منتهى الروعة، بحيث كان هناك رصد لعادات وثقافة اليهود المصريين حيث رأينا عرساً وطقوس دينية في الصلاة والمعبد، كما ظهر «شيكوريل»، محلات الذهب والمانيفاتورة، وكل ذلك كجزء من التراث الشعبي المصري.
كما ظهر تحالف الإنجليز مع القصر والباشاوات، ومستوى الفساد الأخلاقي متمثلاً ببيوت الدعارة، ونخبوية الحياة السياسية الليبرالية في ذلك الوقت، وإن من بعيد!
بقي أن نشير إلى أن العمل الذي استند إلى نجومية منة شلبي، التي تقوم ببطولة أولى لمسلسل درامي رمضاني، لأول مرة، إلى جانب نجم مسلسل «الجماعة» إياد نصار، قدمت نجوماً برعوا في العمل، وكان العمل بالنسبة إليهم تذكرة الدخول لعالم الشهرة، مثل «النطاط» و «موسى» ابن هارون، والوجوه الجديدة فاطمة ومريم، وأظن مارسيل أيضاً، إضافة إلى حسن الذي كان أقل براعة من النطاط وموسى، في حين كرس العمل نجومية ربما متأخرة لهارون داوود «أحمد كمال»، وأكد حضور كل من سيد رجب «العسال»، صفاء الطوخي «دليلة»، في وقت سجل فيه الظهور الكبير الأخير لسامي العدل، وربما لجميل راتب أيضاً الذي ظهر عليه الإعياء في الأداء أيضاً.
Rajab22@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية