أول ما يمكن أن يخطر على بالك حين يُذكر اسم كوبا بالطبع فيديل كاسترو ورفيق دربه تشي جيفارا، كما سيخطر على بالك أشياء أخرى كثيرة يتعلق أغلبها بالسياسة خاصة الحصار الأميركي الظالم على القارة، والثقافة الغنية التي تنعم بها الدولة وعاصمتها هافانا أكثر العواصم شهرة في القارة اللاتينية وما ارتبطت به من فنون وموسيقى وشعر وصناعة السيجار. كوبا الجزيرة التي قدرت لها الجغرافيا أن تكون قبالة الشواطئ الأميركية أيضاً خلق الصراعُ معها وتهريب المواطنين للشواطئ الأميركية في ميامي قصصاً غنية للسينما كما كانت لحكايات القراصنة ومعاركهم المتكررة طوال قرون لاقتحام هافانا نفس القوة والحضور في السينما العالمية.

حين وصلت إلى هناك قبل أيام للمشاركة في فعاليات مؤتمر وزراء ثقافة «مجموعة 77 والصين» التي تترأسها كوبا لهذا العام كنت أفكر كثيراً بصديقي الراحل الشاعر احمد يعقوب الذي قضى قسطاً كبيراً من عمره هناك بعد أن ترك المخيم في سورية والتحق بالجامعة. جاء احمد من بلاد كاسترو وخوسيه مارتي للعراق ثم لفلسطين ضمن العودة المتاحة يتغنى بالشعر والفلسفة والفكر. كان مولعاً بالثقافة اللاتينية بشكل عام وبالكوبية بشكل خاص، وكان قد قدم للمكتبة العربية بعضاً مما ترجم من نصوص شعرية ونثرية. وفيما كنا نعرف عن كوبا كل ما له علاقة بالسياسة، فإن أحمد وخلال حوارات ونقاشات عديدة في غزة تحدث عن الشعر والأدب. ربما تأخر ظهور الأدب الناضج بشكل كامل في الجزيرة بسبب تأخر تطور اللغة الأسبانية بشكل ناضج، خاصة مع حقيقة أن ثلث سكان البلاد من العبيد الذين تم جلبهم من أفريقيا خلال مرحلة استكشاف العالم الجديد، كما أن المهاجرين البيض لم يكونوا قشتاليين بل كانوا من مناطق إسابنية غير قشتالية، وكثيرهم من الأندلس التي كانت قبل سنوات من وصولهم عربية. وبالتالي مر وقت قبل أن يتطور نسق لغوي متكامل يوفر قاعدة لظهور الأدب الناضج المعبر عن حياة الناس. وربما كانت مساهمات خوسيه مارتي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أكثر هذه المحاولات نضوجاً من جهة كتابة الشعر أو النثر والتنظير الفلسفي.

كاسترو وجد ضالته في كتابات مارتي الذي لا يخلو مكان في الجزيرة من الإشارة إليه، من اسم المطار حتى النصب التذكاري للثورة حيث تمثالُه الضخم، حتى الميادين الصغيرة وأسماء الشوارع والمدارس والجامعات. مارتي كان ثائراً وقاد أول ثورة كوبية ضد الاستعمار وسجل أشعاره الثورية ومقولاته الفكرية في كتابات غنية وهامة. خلال فترة سجنه قرأ فيديل كاسترو كل كتابات مارتي واعتمد عليها في تأطير أفكاره السياسة حول المجتمع الذي يبحث عن تأسيسه بعد إعلان الثورة، حين يذهب هو وجيفارا في حرب ضد باتيستا من اجل الإطاحة بحكمه الظالم والرجعي. وربما فقط للتذكير فإن مارتي كان من أشد المعجبين بالثقافة العربية ومن أكثر من يعترف بقوة حضورها في الثقافة اللاتينية وفي ثقافة المهاجرين الأسبان الاوائل. كتب بقوة دعماً لثورة أحمد عرابي في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، بل وأطلق على ابنه اسم «عبد الله» تيمناً بالثقافة العربية. تذكروا أن كوبا حين صنعت اللقاح ضد كورونا اسمته «لقاح عبد الله» تيمناً باسم ابن خوسيه مارتي.

وبالإشارة لتأثير الثقافة العربية في كوبا يمكن بسهولة الاستدلال على الأنماط العربية في البناء في كل بيوت هافانا القديمة من جهة المشربيات والنوافذ أو الأقواس والقناطر والاعمدة. لقد نقل المهاجرون الأسبان الذين كان بعضهم قد التحق بالمسيحية قبل سنوات ربما حنينهم إلى الأندلس للبيوت التي شيدوها في عالمهم الجديد. وقد لا يوجد مكان اكثر شبهاً بالأندلس في القارة اللاتينية من العاصمة هافانا.

ومثلها مثل بقية الدول اللاتينية شهدت كوبا هجرة عربية في القرن التاسع عشر خاصة من بلاد الشام. لم تكن هجرة قوية مثل تلك التي وصلت للبرازيل والأرجنتين وتشيلي لكنها حظيت باهتمام من المهاجرين العرب، قبل ان يقرر جزء كبير منهم تركها والتوجه للولايات المتحدة للكثير من الأسباب ربما الاقتصادية منها كانت في الطليعة بسبب ضيق مساحة الجزيرة وعدم توفر فرص تطور اقتصادهم، ومن ثم الحصار والأزمات السياسية.

في أميركا اللاتينية شكل المهاجرون العرب قوة حقيقية، وقدموا نماذج مشرقة لما يمكن أن يقدمه المهاجر في بلده الثاني، ونجحوا بشكل كبير في أن يكونوا جزءاً من مجتمعاتهم الجديدة، ووصلوا للمناصب السياسية الأولى، فمنهم من تبوأ موقع رئيس الدولة ويمكن الاستدلال على اكثر من رئيس أميركي لاتيني خلال العقود الماضية ينحدرون من أصول عربية.

الحال في كوبا لم يكن مشجعاً، لذلك شهدت الجزيرة هجرة عكسية صوب السواحل الأميركية، خاصة أنها قريبة بشكل كبير. ومع ذلك بقيت جالية عربية قليلة اندمجت بشكل كبير في المجتمع الكوبي، هذه الجالية من أصول فلسطينية ولبنانية وسورية. وقد حظيتُ برفقة زميلتي وزيرة الثقافة الجزائرية الدكتورة صورية مولوجي بسهرة ثقافية في النادي العربي في قلب العاصمة هافانا، حيث تم تقديم عروض ثقافية عربية متنوعة من دبكة فلسطينية إلى فولكلور جزائري في صالة النادي التي تحمل اسم أغلى وأعز مدينة على وجه الأرض « القدس ».

صراع الجذور وصراع الهوية رافق الإنسان منذ شعر بالغربة، وحين تنقل من مكان لآخر على وجه هذا الكوكب، ولذلك ظل البحث عن الروابط التي تحيله للحظاته السابقة أو الماضية دافعاً قوياً وسراً من أسرار إبداعه. ساهم هذا في صعود أشكال فنية كثيرة أبدعها الناس وهم يتذكرون ماضيهم ويحنون له. عربياً كانت الموسيقية الأندلسية، كما أبدع المهاجرون الأفارقة في القارة اللاتينية أشكالاً موسيقية ثرية ومتنوعة، وأبدع الفن الأفروأميركي موسيقى الجاز، أبدع المهاجرون اللاتينيون في الولايات المتحدة السالسا بتنوعاتها المختلفة. إنه ذات الصراع الذي يمكن أن تلمسه في مكونات الهوية الكوبية. صراع نجح في خلق شعب قادر على الصمود بهذه القوة في وجه حصار يخنق بلاده منذ أكثر من ستين عاماً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد