عبد المجيد سويلم

2023-05-01

تبلور الدور الإقليمي لـ «العربية السعودية» في خمسينيات القرن الماضي، وبقي هذا الدور قائماً، وفعّالاً في عموم الإقليم العربي، وامتدّ في أهمّيته وتأثيره إلى المحيط الإسلامي كلّه، وخصوصاً مع تعزيز القدرات الاقتصادية للمملكة مع الزيادات «الصاروخية» في أسعار النفط، أثناء وبعد «حرب أكتوبر»، والتي كان للمملكة إسهام كبير فيها، إن كان لجهة القرار بالحرب، أو كان لجهة دعم الجبهتين المصرية والسورية لسنواتٍ طويلة ما بعد الحرب، أيضاً.

ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي «تزعّمت» العربية السعودية «القطب العربي المقابل والمناوئ» لــ «القطب الناصري»، وعاش الإقليم العربي مرحلة الثنائية القطبية في حالةٍ تكاد تكون مطابقة للثنائية القطبية التي أعقبت نتائج الحرب العالمية الثانية، وقيام معسكرين متناقضين، «يقتَتِلان» بالوكالة في معظم فترات الحرب العالمية الباردة.

اصطفّ معظم الأنظمة العربية، وكذلك الإسلامية المحافظة، والتي كانت تدين بالولاء التامّ للولايات المتحدة الأميركية، ولـ «الغرب» كاملاً على وجه العُموم خلف العربية السعودية، في حين اصطفّت بلدان عربية أخرى، وراء قيادة الزعيم العربي جمال عبد الناصر، ووقف بعض الأنظمة العربية، في فترات معيّنة، ولأسباب «خاصة» في منطقة الحياد، والذي كان من النوع الإيجابي على كل حال، وذلك من زاوية التعاطف مع هذا القطب أو ذاك.

لم يقتصر الدور الإقليمي للعربية السعودية على دعم التحوّلات التي قادها محمد أنور السادات في مصر، وفي المنطقة، ولا على دعم النظام في سورية بعد الانقلاب الذي قاده حافظ الأسد، ضد جناح صلاح جديد من «البعث» السوري، وحيث كان يشغل منصب وزير الدفاع حتى ذلك الوقت، وإنّما تعمّق الدور الإقليمي وتوسّع إلى دعم وإسناد حركات «الإسلام السياسي» في عموم المنطقة، بل ووصل إلى إقامة منظومة متكاملة، فكرية واجتماعية واقتصادية لـ «الإسلام السياسي»، أخذت تلعب الدور الداعم والمساند لكل مؤسسات الاقتصاد السياسي لهذه «الإسلاموية الجديدة»، وأصبح ـ «تصدير» الفكر «الوهّابي» إلى الدول الآسيوية الكبيرة، مثل الباكستان وأفغانستان، وبناء المدارس الدينية فيها هو المعين الذي تنهل منه «الأصولية الإسلاموية الجديدة»، وأصبح الفكر «الإسلاموي» «يصنّع» لنا النسخ الجديدة من «الإسلام الجديد»، برضا ودعم ومساندة من البلدان «الغربية» وأجهزتها الأمنية، وقد وصل التعاون بين «الغرب» وبين حُماة ودُعاة هذا الفكر إلى ذروته في أفغانستان، ووصلت «المهادنة» بين العربية السعودية و»الغرب» إلى درجة سكوت هذا «الغرب» عن تمويل بناء القنبلة النووية الباكستانية، وذلك في مواجهة الهند التي كانت تربطها علاقات قوية بالاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت.

وخلاصة القول هنا أن الدور الإقليمي للعربية السعودية كان فاعلاً من زاوية إحداث تحوّلات كبيرة في مصر وسورية باتجاه تصفية التحوّلات التقدمية فيهما، ونشوء طبقات وفئات اجتماعية من الرأسمالية الطفيلية للانقضاض على مكتسبات تلك التحوّلات، ومن زاوية محاربة القوى الوطنية في عموم الإقليم، ودعم حركات «الإسلام السياسي» التقليدية والجديدة، وتحويل مؤسسات «الإسلام السياسي» إلى مؤسسات مساندة للدور السعودي في كل الإقليم بما فيها حركة «الإخوان المسلمين»، وكلّ تفريخاتهم.

أمّا في ثمانينيات القرن الماضي فقد «توغّلت» العربية السعودية أكثر فأكثر في الدور الإقليمي بعد أن تمكّنت من بناء مجلس التعاون الخليجي، وهو تحالف أمني سياسي قبل كل شيء، وبدأت بمرحلة التصدّي للخطر «الشيعي» القادم من إيران، بعد نجاح جماعات «البازار الإيراني» في الإطاحة بنظام الشاه، وبناء «النظام الإسلامي»، بنسخته الخمينية في إيران، وذلك لأنّ «الثورة الإسلامية في إيران» بدأت بمسار «تصدير» الثورة، وبمسار «الوصاية» على الشيعة العرب، بل وبمسار مُزاحمة العربية السعودية على المكانة الدينية، وعلى زعامتها المؤسّسة على هذه المكانة، وكانت «حادثة الحرم» الشهيرة بـ «حادثة جهيمان» نقطة مفصلية أخرى في هذا التوغّل.

هنا شهدنا المزيد من التحالف، وأحياناً التبعية التامة والولاء الكامل لـ «الغرب»، وهنا تحوّلت العربية السعودية إلى دور الداعم للعراق في «تصدّيه» لـ «الأطماع» ولـ «الأهداف» الإيرانية، وكان هذا الأمر بالذات أحد أهمّ ركائز العلاقة السعودية الأميركية حتى بعد أن تعمّدت أميركا التلاعب بأسعار النفط إلى درجة وضع حلفائها في منطقة الخليج العربي على حافّة الإفلاس، أو بعد أن استنفدوا كلّ مدّخراتهم، وأصبحت دولة مثل العربية السعودية تلجأ للقروض من مؤسّسات الإقراض المالية الدولية.

انقلب حال الإقليم كلّه، ومادت الأرض تحت أقدام الخليج العربي كلّه، بعد أن تمرّد النظام العراقي بقيادة صدام حسين على الدور الخليجي بُعيد «انتصاره» على إيران، وأصبح يطالب بُلدان الخليج العربية بتمويل وإعادة تمويل حرب السنوات الثماني، وأصبح يطلب من هذه البلدان الموافقة الضمنية على زعامته الجديدة للمنطقة، وكان أن قام باجتياح الكويت لإخضاعه الكامل، أو لقبول شروطه الجديدة.

وهنا تحوّل الدور الإقليمي بصورةٍ انقلابية كبيرة، وكان هذا التحوّل هو مفتاح الدور السياسي الجديد للعربية السعودية في ذلك الوقت. فمن ناحية تزعّمت العربية السعودية بالتوافق والتنسيق مع أميركا بناء تحالف «عاصفة الصحراء» بمشاركة عشرات الدول الغربية، وبعض البلدان العربية، وخصوصاً مصر وسورية، وأصبحت تتزعّم العالم العربي في مفاوضة أميركا على «مقايضة» تاريخية لحل الصراع العربي الإسرائيلي نتج عنها «مبادرة الملك فهد»، وقبول وسعي الولايات المتحدة لعقد «مؤتمر مدريد للسلام»، ثم «مبادرة الأمير عبد الله»، التي عُرفت بـ «مبادرة السلام العربية».

وفي تلك الأثناء بدأت العربية السعودية الانسحاب «التدريجي» من دعم «الجماعات الإسلاموية»، خصوصاً بعد عودة «الأفغان العرب»، وبعد أن «تمرّدت» (القاعدة) التي انطلقت من أفغانستان، و»تحوّل» موقف هذه «الجماعات» نحو دعم نظام صدّام حسين قبل سقوطه بما فيها جماعات «الإخوان المسلمين» أنفسهم.

وكان أن قبلت إيران «السكوت» على سقوط النظام العراقي، وتحالفت «ضمنيّاً» مع العربية السعودية ومع أميركا لإسقاطه، تماماً كما كانت قد تحالفت مع «الغرب»، ومع أميركا ضد نظام الجماعات «الإسلاموية» في أفغانستان، ولم يرق للعربية السعودية مطلقاً أن إيران، والجماعات التي توالي إيران هم الذين جاءت بهم الدبابات الأميركية إلى بغداد، وهم أنفسهم من تعاونوا مع الجيش الأميركي لاحتلال العراق، وهم أنفسهم من تسلّموا السلطة فيها بموافقة إيرانية، وبتنسيقٍ كامل مع الحاكم الأميركي نفسه.

ولم يرق لأميركا أن «الإخوان المسلمين» الذين زكّتهم لقيادة المنطقة بعد الإطاحة بأنظمة كل من «حسني مبارك» (مصر) و»القذافي» (ليبيا) و»بن علي» (تونس) لم يكونوا على مستوى القدرة على قيادة «الدول»، ولم يرق للعربية السعودية أن «الإخوان» قد «تمادُوا» في مشروع السطو والسيطرة على السلطة في مصر، وفي ليبيا وتونس، وأصبحوا (أي الإخوان) يعادون «التشيُّع» في الخطاب السياسي، ويعملون للتحالف مع إيران تحت الطاولة، ولهذا فقد تحالفت السعودية مع النظام الجديد في مصر بعد تسلم السيسي للحكم، ووقفوا ضد «الإخوان» في ليبيا وتونس، وتوتّرت علاقتهم بـ الدوحة وأنقرة، ووصلت الأمور إلى القطيعة الكاملة، وإلى بناء «تحالف رباعي» ضدّهما لم تتمّ تصفية آثاره حتى الشهور الأخيرة.

في هذا الواقع المرتبك والشائك والهائج تحوّلت العربية السعودية إلى رأس الحربة «بالتصدي» لإيران، وعملت كلّ ما بوسعها للحدّ من نفوذها في لبنان والعراق، وانخرطت في معركة إسقاط النظام في سورية بحجّة الدعم الإيراني، ودعم «حزب الله» لهذا النظام، وتقاسمت مع الدوحة وأنقرة أدوار «رعاية» (المعارضة)، ووقفت بكلّ قوّتها وإمكانياتها ضدّ التسلّح الإيراني، وخصوصاً امتلاكه للتقنية النووية.

لكن القيادة الأميركية التي تتّصف بالعنجهية والتسرُّع وتشوّش البصيرة، ولأسباب انتخابية أحياناً، وفي إطار التنافس بين الحزبين هناك تصرّفت وكأنّ العربية السعودية مجرّد تابع يتلقّى الأوامر، أو عليه تنفيذها، أو الامتثال لرغباتها، بل وتهديدها إذا «لزم» الأمر، واعتقدت أنّ بمقدورها التلاعب بهذه التهديدات وقتما تشاء.

هنا لم تفهم القيادة الأميركية أن «بيع» الأنظمة، يوازي الاستغناء عن «خدماتها» ويساوي الاستعداد للإطاحة بها، بل وتسيير الجيوش لإنجاز هذه المهمّة، وهو الذي دقّ ناقوس الخطر لدى العربية السعودية.

وما أن جاءت الحرب في أوكرانيا، وانفجار أزمة الطاقة، وبدء تشكُّل العالم الجديد حتى كانت العربية السعودية قد أصبحت جاهزة للدور الجديد، وهذا ما سنحاول تناوله بالتفصيل في المقال القادم مباشرة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد