ربما تأخر الصراع قليلاً في السودان لكنه كان مؤكداً، وكان يمكن قراءة وتوقع حدوثه من البداية لأنه لا يمكن لدولة أن يحكمها جيشان بصرف النظر عن المسميات. وما كان وشيكاً في كل لحظة كان يتم تفاديه لا من اجل منع وقوعه بل من أجل تأخير التصادم حتى اللحظة المناسبة.
إن ما يجري في السودان أكثر من مجرد اقتتال داخلي وانعكاس لحالة القوة وتصارعها داخل بلد مزقته الحروب الأهلية قبل ذلك واقتطعت جزءاً مهماً منه ليصبح دولة مستقلة، أقصد جنوب السودان، وربما تقود هذه الحرب إلى اقتطاع أجزاء أخرى وإن لم تفعل فستقود حتماً إلى المزيد من الترهل والتمزق في الدولة المتآكلة أصلاً.
يصعب تخيل حل للمشكلة لا يقوم على تفاهمات هشة بدورها ستنهار لاحقاً، كما يصعب تخيل الحسم النهائي للصراع لصالح قوة محددة. وعليه فإن التقاسم الذي قد يحدث من المؤكد لن يصمد طويلاً وستكون له تبعات أكثر حدة على مستقبل الدولة التي أنهكتها الحروب والأزمات الداخلية والصراعات المناطقية. ومع ذلك فإن الثمن الذي سيتم دفعه مهما كان الحل سيكون كبيراً وسيراكم المزيد من الأزمات للأزمات الموجودة لا لشيء ولكن لأن بنية وهيكلية الدولة أصابها المزيد من التصدع مع تفجر الحالة العربية الراهنة فيما بات يعرف بالربيع العربي الذي لم يكن ربيعاً ولم يكن عربياً على الأقل على مستوى النتائج.
ملاحظة واجبة هنا، أن ما يجري في السودان يأتي في ظل حالة من عدم التصادم عربياً، فالدول العربية التي ساهمت في تمزيق الكثير من شقيقاتها العربية بدعوى دعم الربيع العربي وثوراته رجعت خطوات إلى الوراء، ولم تعد التحولات في الحياة السياسية العربية تسير نحو الصراع العربي العربي أو التنافس بين الدول العربية على المزيد من التدخل في شؤون الدول الأخرى. ليس أن الدول العربية التي كانت تتدخل باتت تدرك خطورة ذلك أو أنها صارت أكثر وعياً وقومية من ذي قبل، ولكن لأنها أدركت أن كل ما كانت تقوم به كان على حساب مصالحها الحقيقية سواء كانت الاقتصادية أو الاستراتيجية لذلك قررت الانكفاء.
عموماً، العالم كله يمر بمرحلة انكفاء. وربما أن الحرب الأوكرانية ساهمت في دفع الكثير من الدول للانكفاء وكشفت عورات العضلات الأميركية المزعومة حول حماية الحلفاء وقت الضيق. ما جرى في أوكرانيا كشف ألا أحد سيدافع عن احد ولا أحد سيدفع فاتورة احد. كل دولة تقوم بما تمليه عليها مصلحتها كي تحافظ على نفسها من الحروب القادمة والأفضل ألا تقوم بأي حرب بالوكالة عن واشنطن ودفاعاً عن مصالح الغرب على حساب ثرواتها وخيراتها. على الأقل المصالحة السعودية الإيرانية تقول ذلك وتكشف عن عمق التحول في الفهم في المنطقة. فدول الشرق الأوسط ليست ساحات خلفية لمصارعة الثيران الأميركية.
ما يقترحه هذا التحليل أن الصراع السوداني لن يجد ما يغذيه عربياً بل إن ثمة توجهات عربية لاحتواء ما يجري حتى لا يؤثر على سلسلة المصالحات التي تتم في المنطقة. وطالما لم يجد ما ومن يغذيه فإن الصراع سيظل محدوداً ضمن نطاق التوترات السودانية. وبذات القدر فإن التدخل لحسمه أيضاً قد يكون بطيئاً وهذا ما يحدث إذ صار له الآن أكثر من ثلاثة أسابيع.
يبدو الجميع غير مهتم بالمزيد من الحرائق لكن أيضاً التدخل من أجل إخماد المشتعل منها قد يكون مكلفاً أيضاً لذا فإن التدخل الحذر سيلازم المواقف العربية حتى لا يقع المحذور.
ربما المضحك وغير المفاجئ طبعاً هو محاولات دولة الاحتلال التوسط لإنهاء الصراع. هذا يعني جملة أشياء لا بد من ذكرها والتنويه لها. فهو يعني قبل كل شيء قوة حضور مصالح المتخاصمين عند تل أبيب ومدى ما يربطها من علاقة معهما. فالسودان من الدول العربية التي طبعت بشكل مباشر وجرى تعاون عسكري بينها وبين تل أبيب وزيارات شملت طرفي الصراع الآن. ومن الواضح أن الأمر بالنسبة لإسرائيل هو التوفيق بين الأصدقاء حتى لا يستفيد طرف ثالث مما يجري. عموماً، لم يكن الأمر مفاجئاً لكنه عكس بقوة الحالة العربية الراهنة. تذكرون قتال الجيش السوداني في معارك فلسطين وشواهد بطولاته التي لا ينساها شعبنا، وربما منطقة السودانية على شاطئ شمال غزة قبالة جباليا أحد هذه الأدلة.
بقي أن نعيد التذكير أن ما يجري في السودان هو استمرار لارتدادات الربيع العربي. لم يكن ما يجري في المنطقة العربية صدفة إذ إنه ساهم أكثر في تردي الحالة العربية وربما كانت الموجة الجديدة من مرحلة «سايكس - بيكو» التي عنت تمزيق الدولة العربية إلى دول والآن ومنذ أكثر من عقد من الزمن يتم تمزيق هذه الدول حتى لا تستطيع مواصلة الاستمرار. كل تلك الدول التي مسها الربيع العربي بجنونه باتت دولاً آيلة للسقوط بالمعنى السياسي وهي غير قادرة على مواصلة الطريق وحتى إن واصلت فستظل تواجه عثرات في الطريق.
السودان دفعت جزءاً من أرضها ولم تهدأ الحالة فيها حتى اللحظة ولن تشهد الاستقرار لأعوام قادمة. وستظل نتيجة الربيع العربي الوحيدة هي التطبيع العربي طبعاً إلى جانب انهيار الدولة القُطرية العربية وتراجع مكانة العرب عالمياً. لا مستفيد آخر غير إسرائيل من كل ذلك. عموماً، قد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد في حال عدم وجود صحوة عربية حقيقية قادرة على إعادة لملمة الحالة العربية والنهوض بالواقع العربي. وهذا يتطلب قبل وبعد كل شيء استمرار حالات المصالحة العربية وترميم البيت العربي المعروف بالجامعة العربية حتى تكون جامعة وبيتاً حقيقياً للعرب حتى لا تنقسم كل دولة عربية إلى دولتين أو ثلاث.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد