يُحيي الشعب الفلسطيني ذكرى " يوم الأرض " في نهاية شهر آذار/مارس من كل عام. تعود هذه الذكرى إلى عام 1976، عندما أعلنت سلطة الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين عن مشروع "تطوير الجليل" الذي تمت بموجبه مصادرة مساحات واسعة من أراضي الفلسطينيين المحتلة عام 1948، في إطار تهويد الجليل والمثلث والنقب.

عندها، قاوم الفلسطينيون الاستيلاء على أراضيهم بالإضراب والتظاهرات يوم 30 آذار/مارس 1976، فقمعتهم سلطة الاحتلال، ما أدى إلى ارتقاء 6 شهداء وجرح واعتقال العشرات.

كانت تلك المقاومة بداية مرحلة جديدة من الدفاع عن الأرض الفلسطينية كجوهرٍ للصراع بين الشعب الفلسطيني والمشروع الصهيوني، وكانت تتجدد كل عام في "يوم الأرض"، ويتجدد معها النقاش في أهمية الأرض كوطنٍ للشعب الفلسطيني، ما يتطلب تسليط الضوء على العلاقة بين مفهومي الأرض والوطن لندرك أنه ليس بالأرض وحدها يحيا الوطن.

الأرض كانت عنوان رواية للأديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي نشرها عام 1954 بعد ثورة 23 تموز/يوليو. الرواية توضح العلاقة بين مفهومي الأرض والوطن من خلال أحداث الصراع بين الفلاحين المستضعفين أصحاب الأرض وثُلاثي الاستكبار: الاحتلال البريطاني المُستبد، ونظام الحكم الملكي الفاسد، وطبقة الإقطاعيين المُترفين.

ومن خلال هذا الصراع، تتضح قيمة الأرض المادية والمعنوية عندما تتوحد بالإنسان فتصبح جزءاً منه، وتغدو ملتصقة بشرفه وكرامته ومساوية لحياته وأهله، فيدافع عنها دفاعه عن شرفه وكرامته وحياته وأهله.

وقد أبدع المخرج المصري يوسف شاهين في تحويل الرواية إلى فيلم روائي سينمائي عام 1970، وخصوصاً عندما غيّر مشهد النهاية ليكون أقوى تأثيراً في بث رسالة الرواية والفيلم الداعية إلى التمسك بالأرض العربية السليبة بعد النكبتين، فكان مشهد النهاية لبطل الفيلم محمد أبو سويلم وهو يسقط على أرضه المصادرة، ويُسحَل على وجهه، فيما يداه تتشبثان بالأرض، ودماؤه تنزف لتروي الأرض على خلفية أغنية مطلعها: "الأرض العطشانة نرويها بدمانا".

كانت الأرض عنوان قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش مستوحاة من أحداث يوم الأرض عام 1976. كتب مُخاطباً خديجة، إحدى شهيدات يوم الأرض كرمزٍ للأم الفلسطينية والأرض الفلسطينية، مؤكداً توحد الإنسان الفلسطيني بأرضه وحتمية طرد الغزاة واسترداد الأرض: "أنا الأرض.. والأرض أنتِ.. خديجة لا تغلقي الباب... سنطردهم من إناء الزهور.. وحبل الغسيل... سنطردهم من هواء الجليل".

هذه القصيدة غنية بالمعاني والقيم التي تربط بين الحاضر المظلم والمستقبل المشرق، وتدمج بين الألم والأمل، وعلاقة الفلسطيني بأرضه كوطن يسكنه الإنسان أو إنسانٍ يسكنه الوطن. وفي كلا الحالتين، فهو قريب منه: "بلادي البعيدة عني كقلبي".

ويختم القصيدة كما بدأها بحتمية طرد الغزاة والعودة إلى الأرض: "أيها العابرون على جسدي لن تمروا.. لن تمروا.. لن تمروا.."، فكانت الأرض في توحدها مع الإنسان الفلسطيني أفضل تجلٍّ لمفهوم الوطن.

توحُد الفلسطيني بأرضه المحتلة هو الذي يكوّن عنده مفهوم الوطن. ومن دون صمود الفلسطيني في أرضه، ومقاومته مغتصبها، وتمسكه بحقه في العودة إليها، وحنينه وشوقه لرؤيتها والعيش فيها... يفقد الوطن مضمونة وقيمته، ويصبح أرضاً يسكنها الآباء والأجداد من دون رابطة وجدانية وعلاقة عاطفية بها.

لذلك، جاءت أدبيات الثورة الفلسطينية مؤكدة ربط مفهوم الأرض بالوطن من خلال علاقة الفلسطيني بأرضه، فهي قطعة منه لا يستطيع الانفصال عنها: "وعهد الله ما نرحل.. عهد الله نجوع نموت ولا نرحل.. وإحنا قطعة من هالأرض.. وعمر الأرض ما بترحل"، وهو يحبها ويقبلها بجراحه أثناء دفاعه عنها: "أنا يا أخي فوق التراب سقطت أحتضن السلاح.. وأقبل الأرض الحبيبة بالشفاه والجراح.. قبلات حرٍ ظامئٍ للفجر يصنعه السلاح"، وهو مؤمن بالعودة إليها: "أنا آتٍ يا وطني آتٍ"، "إليك نجيء يا وطني إليك نجيء"، "قادمون يا تراب الأنبياء يا بلادي"، "زاحفين فوق كل شبر من أرضنا يا أرضنا زاحفين".

بقدر وضوح العلاقة بين مفهومي الأرض والوطن في أدبيات الثورة الفلسطينية كمفهومين متداخلين عندما يتوحد الإنسان بالأرض، التبست هذه العلاقة عند التيار الإسلامي التقليدي في الساحة الفلسطينية قبل الانتفاضة الأولى عام 1987، الذي استمد مفاهيمه الفكرية بشكل أساسي من الإمام الشهيد حسن البنا الذي يحمل مفهوماً مختلفاً للوطن والوطنية لخّصه بقوله: "إنَّ رابطة العقيدة أقوى من كل الروابط. إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وأنَّ أساس وطن المسلمين العقيدة".

وقد أكد هذا المفهوم الأستاذ المفكر سيد قطب في فصل "جنسية المسلم وعقيدته" من كتاب "معالم في الطريق" بقوله: "جاء الإسلام ليرفع الناس ويخلصهم من وشائج الأرض والطين، فلا وطن للمسلم إلا الذي تُقام فيه شريعة الله، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته... وطن المسلم الذي يحن إليه ويدفع عنه ليس قطعة أرض. وطنه هو دار الإسلام".

وانطلاقاً من هذه الرؤية، لم تُعطِ الحركة الإسلامية التقليدية أرض فلسطين أهمية خاصة كوطن خارج الرؤية الشرعية باعتبارها أرضاً إسلامية يجب تحريرها بالجهاد. لذلك، لم تمتلك مشروعاً للتحرير الوطني بعيداً من مشروع الخلافة الإسلامية.

امتلاك مشروع للتحرير الوطني برؤية إسلامية كان بجهد التيار الإسلامي الثوري، نتيجة لوضوح مفهوم الوطن كعلاقة بين الإنسان الصامد والمقاوم والأرض المقدسة المباركة في فلسطين، وحركة الجهاد الإسلامي في طليعة هذا التيار.

كتب مؤسسها المفكر الشهيد فتحي الشقاقي عام 1989 في مجلة "المجاهد": "من عقيدتنا أنَّ فلسطين -هذا الوطن الصغير والعزيز- جزء من الوطن الإسلامي الكبير، وأنَّ تحريرها كاملة والقضاء على دولة اليهود هما إرادة إلهية وتكليف إلهي".

وقال عن مبعدي مرج الزهور عام 1993 مؤكداً ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه ووطنه: "وسيبقون رغم الصقيع والعراء يدقون بوابات هذا العصر لتدرك الدنيا كم يعشقون وطنهم ولا يرضون منه بديلاً... هل عرفت الدنيا الآن من هي الأم الحقيقية، ومن هم أصحاب هذا الوطن، ومن هم الذين يستحقون فلسطين وتستحقهم فلسطين".

وقد جعل فلسطين كوطنٍ رأسَ مثلث "الإسلام وفلسطين والجهاد" في مشروعه الجهادي، وجعلت الحركة في وثيقتها السياسية الأرض محوراً للصراع على فلسطين: "أرض فلسطين هي محور الصراع المباشر مع المشروع الصهيوني"، وجعلت الصراع مع المشروع الصهيوني محوراً لصراع أكبر بين الأمة الإسلامية والمشروع الغربي الاستعماري.

يوم الأرض في فلسطين فرصة لتجديد ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه، ليبقى الوطن حاضراً في وجدان الشعب الفلسطيني حتى تحريره والعودة إليه، وهذا لا يتم إلا بوجود ركني الوطن: الأرض والإنسان؛ الإنسان المُحبّ للأرض كجزءٍ منه، الصامد في أرضه، والمقاوم من أجل تحريرها والعودة إليها، والأرض الممزوج ترابها بدم الشهداء والجرحى، وعرق الفلاحين والكادحين، ودموع الثكالى والمفجوعين، ووجع الأسرى والمحاصرين، وحنين المنفيين واللاجئين، ورائحة الآباء والأجداد، وشموخ الثوار والأحرار...

وفي ذلك الوطن، تُصبح المقاومة وِرداً يومياً يوحد الإنسان بالأرض وجدانياً في علاقة حبٍ أبدية تحتضن فيها الأرض الأم ابنها الإنسان حياً يُرزق فوق الأرض أو حياً شهيداً تحت الأرض.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد