على خلاف ما أرادته القيادة اليسارية في أثينا، فإن بقاء اليونان في منطقة اليورو، بات تحدياً لهذه القيادة التي اتبعت تكتيكاً حماس ياً، يتعارض مع الواقع إلى حد كبير، عندما رجعت إلى الشعب اليوناني من خلال استفتاء عام، دعت فيه الشعب إلى رفض مقترحات وخطط الاتحاد الأوروبي التقشفية بهدف إصلاح الوضع الاقتصادي المتردي في اليونان، ظنت القيادة اليسارية، أن التصويت الشعبي ضد المقترحات الأوروبية، سيشكل ضغطاً كبيراً على الاتحاد الأوروبي أثناء المفاوضات، لكن 17 ساعة من المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي ورئيس الوزراء اليوناني الكسيس تسيبراس، أدت إلى نتيجة مخالفة لكل هذه الرهانات التي بنى عليها «اليسار الطفولي» سياساته، فقد أفضت هذه المفاوضات إلى اتفاقات، هي ذاتها التي صوت عليها الشعب اليوناني برفضها، واليوم الأربعاء، سيخوض رئيس الوزراء اليوناني، معركة جديدة، لإقناع تكتله المشكل من 13 حزباً، بما تم الاتفاق عليه، والأرجح أن ينجح في ذلك، ليس لأي سبب سوى أن لا خيار بعد تجربة الاستفتاء والمفاوضات التي تلته، سوى الموافقة على المقترحات والخطط التي قادتها كل من فرنسا وألمانيا بشكل أساسي.
النقاشات التي دارت في الفلك الأوروبي، بعد فوز اليسار في اليونان قبل بضعة أشهر، كانت تدور أساساً حول الأزمة الاقتصادية في بلاد الإغريق، واصرار القيادة الجديدة في أثينا على تبني خطط اقتصادية تتناقض مع الخطط التي وافقت عليها الحكومات اليمينية، خاصة فيما يتعلق بالتقشف الذي طال كل عصب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلاد الإغريق. اليسار، حاول بكل جهد من خلال قيادته للبلاد، التمترس وراء برنامجه ووعوده الانتخابية، مراهناً ليس على ثبات الشعب وراء برنامجه الاقتصادي، بل على إرادة أوروبية بإبقاء اليونان في اطار منطقة اليورو وعدم دفعها للخروج من الاتحاد الأوروبي، لأسباب عديدة تتعلق بالاتحاد أكثر من كونها تتعلق باليونان كبلد فقير في هذا الاتحاد، المناورة التي تبنتها القيادة اليسارية من خلال الضغط على الاتحاد من خلال إرادة شعبية بالتصويت بـ (لا) للخطط الأوروبية، أثبتت فشلها تماماً، بعدما تم الاتفاق على حزمة إجراءات تقشفية تكاد لا تختلف عما صوت الشعب اليوناني بتأييد ودعم من قيادته اليسارية ضدها.
فرح الفلسطينيون، واليسار الفلسطيني على وجه الخصوص، بفوز اليسار اليوناني في الانتخابات التشريعية الأخيرة، خاصة بعدما أعلنت القيادة الجديدة في أثينا أنها تتمسك بموقف اليونان الداعم للقضية الفلسطينية وأنها ستعترف بدولة فلسطين في «الوقت المناسب» ولكي تصبح اليونان الدولة 137 التي تعترف بدولة فلسطين، ولا شك أن وصول اليسار إلى سدة الحكم في أي بلد ـ بشكل عام ـ هو مصلحة فلسطينية وعربية، في الغالب، هذه الأحزاب تقف مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة، ولعل في هذا القول ما يشكل توطئة لما نود الإشارة إليه حول طبيعة الموقف الأوروبي، من وصول اليسار اليوناني إلى الحكم في بلاد الإغريق.
ونرى في هذا السياق، أن الموقف الأوروبي من وصول اليسار إلى الحكم في اليونان، لم يكن مجرد موقف إزاء الأزمة الاقتصادية الخانقة ومسألة الديون المستحقة والخطط والإجراءات التي يتوجب اتباعها للخلاص منها، المسألة كما نعتقد تتجاوز هذه المسائل أهميتها إلى الشأنين، السياسي والحزبي، ذلك أن وصول اليسار إلى الحكم في عواصم أوروبية من شأنه أن يطيح بعناصر «الاستقرار» على المستويين السياسي والحزبي في عموم الاتحاد الأوروبي، اليونان ليست الدولة الوحيدة التي يمكن أن يطلق عليها «رجل أوروبا المريض» هناك إسبانيا والبرتغال وقبرص، وربما إيطاليا، هناك خطط «إشفاء» أوروبية وقروض وتقشف، باتت تشكل عبئاً على اقتصادات بعض دول الاتحاد، إذا ما نجحت تجربة اليونان، في التمرد على هذه الإجراءات والخطط، فإن ذلك سيدفع قوى اليسار في العديد من دول الاتحاد الى الانتعاش على المستوى الشعبي الجماهيري. امتداد التجربة اليونانية، إلى خارج بلاد الإغريق، من الممكن أن يصل إلى بلاد «الرومان» وسائر الأصقاع، تحت أعلام اليسار الحمراء، خاصة أن الحديث عن يسار اليسار، اليسار الراديكالي، وليس اليسار بلباسه الشيوعي والاشتراكي، يسار أكثر تمرداً وأكثر التصاقاً ببرامجه المعلنة.
لذلك، ما كان بإمكان التجربة اليسارية اليونانية أن تمر، ما كان للاتحاد الأوروبي أن يمنح هذا اليسار أي انتصار، لذلك، لم يكن الهدف الأساسي للمشاورات بين الاتحاد والقيادة اليسارية اليونانية، يتعلق بالاقتصاد، بل يتعلق بالدرجة الأولى، بأن لا يحقق هذا اليسار برنامجه الاقتصادي ـ السياسي، قوى الرأسمالية المتوحشة والاحتكارات الدولية، بقدراتها الهائلة ورهاناتها السياسية، لن تسمح لهذه التجربة بالنجاح، خشية من امتدادها خارج النطاق الجغرافي لليونان. أحزاب اليسار في الاتحاد الأوروبي، إسبانيا وفرنسا تحديداً، بدأت تتحرك على أنغام الاقتصاد اليساري في اليونان، كان الحديث يجري في عدة دول أوروبية عن البحث عن حزب مثل حزب «سيريزا» في اليونان، وقائد مثل «تسيبراس»، لكن ماذا ستفعل هذه الأحزاب، بعد الاتفاق الأخير؟!
Hanihabib272@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية