حين اندلعت شرارة ما يُسمّى «الربيع العربي»، تفاءل البعض وتشاءم البعض الآخر. المتفائلون بنوا مراهناتهم على حركة الجماهير، التي خرجت إلى الشوارع، لتغيير أنظمة استبدادية متخلّفة ومتجلّدة، بأمل أن تستعيد الجماهير دورها في المشاركة السياسية، وإطلاق طاقتها، لاستعادة الكرامة العربية المهدورة.

البدايات من تونس، إلى مصر، كانت مشجّعة وواعدة، حيث خرجت الملايين إلى الشوارع، وامتلكت القدرة على التغيير، وبدا كأنّ المنطقة العربية تتّجه نحو أخذها مكانتها تحت الشمس، ووسط أحداث التاريخ بعد أن كانت على الرصيف.

لقد طالت مرحلة الظلامية، على الأمّة العربية، واستبدّ بها الفساد، والتخلُّف وفقد الكرامة، والسيادة الفعلية، وخضعت إمكانياتها وثرواتها للنهب الاستعماري الذي لا يرحم، ويحتقر منطق الشراكات، وتوازن المصالح.

المُتشائمون بنوا قراءاتهم، على طبيعة ومآلات الحراكات الشعبية المحكومة لآليات تحريك ودوافع خارجية في إطار ما يُعرف بالفوضى الخلّاقة ورؤية «الشرق الأوسط الجديد»، التي تبنّتها واعتمدتها الولايات المتحدة وإسرائيل، وانساقت إليها الدول الغربية الاستعمارية.

كانت نظرية الفوضى الخلّاقة، التي تستهدف إعادة صياغة خارطة الشرق الأوسط، تقوم على تقسيم المُقسّم العربي، والبعض سمّاها «سايكس ـ بيكو الجديدة» من أجل تعميق السيطرة على ثروات الأمّة وشعوبها تحت شعارات برّاقة.

الولايات المتحدة وحلفاؤها جنّدوا إمكانيات مالية ولوجستية وتسليحية ضخمة، وتطلّب نجاح المخطّط في تأليب جزء من الجماهير ضدّ أنظمتها السياسية ثم تأليب بعض الجماهير على بعضها الآخر، تطلّب ذلك اختراع أدوات ومنظّمات محلية، بعضها تحت ستار الدين، واستعادة زمن الخلافة الإسلامية، وبعضها الآخر تحت شعارات الحرية والديمقراطية والوطنية.

كان لا بدّ من تنويع الشعارات حتى تستقطب الأدوات أوسع إطارٍ جماهيري ممكن، ولكن في الأغلب كان لا بدّ من استدعاء وتجنيد المرتزقة، وتُجّار الحروب والمجرمين وقُطّاع الطرق وخرّيجي السجون من دول ومجتمعات كثيرة.

المخطّط التقسيمي فشل في بداياته، حين كان من المنتظر أن يتمّ تقسيم مصر الكبيرة إلى عددٍ من الأقاليم، البعض رشّح أن تكون خمسة وبعض آخر رشّح أن تكون ثلاثة.

استهدف المخطّط التقسيمي الدول المركزية الثلاث في المنطقة، ابتداءً من مصر، ثم سورية، بعد أن قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها باحتلال العراق، وتدمير إمكانياته وإفقاره ونهب ثرواته وإخضاعه لعملية سياسية شكلها ديمقراطي وجوهرها محكوم لنظامٍ طائفي في مجتمع يعجّ بالطوائف.

لم يقتصر التدخّل الخارجي على تحفيز وتجنيد المرتزقة، ودفع الأموال، وتوفير الأسلحة والذخائر، وإنما اتخذ طابعاً مكشوفاً عَبر التدخّل العسكري المباشر، كما ظهر على نحوٍ واضح في ليبيا وسورية.

ومع الأسف نجح المخطِّطُون في استمالة دولٍ عربية، وأخرى إقليمية، دخلت على الخطّ المباشر، لدعم وتشجيع الحراكات التغييرية، إمّا بدافع البحث عن المصالح، أو بدافع الانتقام من أنظمة عربية مستهدفة، أو بدافع الخضوع لإرادة صاحب أو أصحاب المخطَّط.

منذ أن دخلت « كورونا » على الخط، وحتى الآن، لم تبدِ النُخب العربية الثقافية والسياسية والفكرية، أيّ اهتمامٍ بهذا الملف، والغوص في مآلاته لتبصير المواطن العربي بحقائق الأحداث، وإلى أين ترسو مراكب العرب.

بعد ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً على اندلاع شرارة «الربيع العربي»، يثور السؤال الآتي: ما الأولوية بالنسبة للشعوب العربية، هل هي الديمقراطية، وتغيير الأنظمة، أم استعادة الكرامة، والسيادة والمحافظة على الدولة الوطنية؟

لو كان علينا أن نختار فإننا بالتأكيد سنختار التغيير الديمقراطي الذي يحقق استعادة الكرامة الوطنية والسيادة وحماية الدول الوطنية بما يُؤسّس لاستعادة الأمة العربية وحدتها وكرامتها واستقلالها، غير أن طبيعة المخطَّط تطرح هذه الثنائية لأنها إن فشلت في التقسيم، فإنها بالتأكيد ستبذل المستحيل لكي لا تستعيد الأمّة خيار الديمقراطية والوحدة والسيادة.

القضية الفلسطينية كانت أبرز ضحايا هذا المخطَّط، ذلك أن انغماس العرب في تناقضاتهم، وبعضهم في أزماته الخطيرة، وخوف البعض على استقرار وأمن نظامه السياسي، أدّى إلى تبدُّل الأولويات، وتراجع القضية الفلسطينية.

وفي ضوء ذلك، تقدمت إسرائيل في تحقيق مخطَّطاتها والنفاذ إلى المنظومة العربية، بدعوى مواجهة مخاطر مشتركة، ذات أبعادٍ إقليمية، وبالمراهنة على قوّتها، في ضوء تراجع الوجود والاهتمام الأميركي، منذ أن أعلن الرئيس باراك أوباما الانسحاب من العراق.

تغيّر الزمن، على مختلف الصُعد، فلقد فشلت مخطَّطات التقسيم في تحقيق أي من أهدافها، وتغيّرت الأوضاع الدولية بعد الحرب في أوكرانيا، وما تركتها ولا تزال من تداعيات، تتّجه نحو تغيير النظام الدولي أحادي القطبية لصالح عالمٍ متعدِّد الأقطاب.

وتغيّرت الأوضاع الإقليمية، أيضاً، حيث دخلت إسرائيل أزمة دولة ونظام ومجتمع، مع وصول «اليمين العنصري الاحتلالي الفاشي» إلى الحكم، وافتضاح أهدافه ومخطَّطاته التي تتّجه نحو حسم الصراع، فضلاً عن أن تلك الأزمة تستنزف القوّة الإسرائيلية، حتى ليبدو أنها غير قادرةٍ على حماية نفسها حتى تكون قادرة على حماية الآخرين.

اليوم تمتلئ مواقع الأخبار بمؤشّرات استعادة العرب صحوتهم وإعادة ترتيب أوراقهم، نحو تظهير قدراتهم وإمكانياتهم، على سطح أحداث التاريخ، وإعطاء مصالحهم الوطنية الأولوية.

توصف هذه المرحلة بمرحلة المصالحات العربية، وعنوانها الرئيس سورية، التي استعادت علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع الإمارات، ثم فتح العلاقات مع السعودية وتظهير العلاقات السورية المصرية.

المصالحات تمتدّ لتشمل الاتفاق الإيراني السعودي، وتعزيز العلاقات الإماراتية مع إيران، واستبعاد لغة القوّة والتهديد، ولتشمل، أيضاً، العلاقات المصرية التركية، والتركية السورية، والتركية السعودية، وقبل كل ذلك السعودية العراقية.

السعودية تقدم نموذجاً في المبادرة نحو قراءة جديدة ومختلفة للمتغيّرات الدولية، فهي بالإضافة إلى رفضها «التطبيع» مع إسرائيل رغم الضغوط الأميركية، وما سبق أن قامت به من خطوات بدت وكأنها تقيم توازناً في علاقاتها مع الأحلاف الدولية، فهي أعلنت انضمامها إلى «مجموعة شنغهاي»، الأمر الذي يشكّل قلقاً للإدارة الأميركية.

قبل القمة العربية، تبدو هذه المصالحات ضرورية، من حيث أنها تمهّد الطريق أمام عودة سورية للجامعة العربية، ومن ثم القمة العربية، وبما يعني أن القضية الفلسطينية ستستعيد مكانتها في المنظومة الفكرية والسياسية العربية الجامعة.

يبقى على الدول العربية، التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، أن تعيد انسحابها مع الخطّ السياسي العربي الجامع، من خلال تراجعها عمّا قامت به.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد