يمكن لمن يدخل أي سوبرماركت أو محل بقالة صغير في قطاع غزة أن يلحظ غياب المنتج الوطني عن الرفوف وقائمة البيع لصالح انتشار المنتج الأجنبي الذي يفد للقطاع من كل بقاع الأرض مع طغيان للمنتج الإسرائيلي.
إن نظرة خاطفة على معظم البضائع داخل أي سوبرماركت قد تصيب المرء بالغثيان، وهو لن يلاحظ بداية هذا التنوع السلبي الذي يأتي على حساب المنتج المحلي، إذ إن قسوة الحياة والرغبة في تطوير جودتها قد تجعلان المرء يغمض عينيه عن الكثير من التفاصيل لصالح التأكد من أن كل شيء متوفر وأن المواطن يحصل على ما يريد، خاصة أن الحصار البشع الذي فرض على القطاع أتي على الكثير من حيوات الناس وصحتهم وحريتهم في التنقل والسفر إلى جانب كل شروط الحياة الكريمة المكفولة في الشرعة والقانون الدولي وحقوق الإنسان.
وربما في زحمة البحث عن تعويض كل ذلك تغيب الملاحظة الدقيقة، الملاحظة القائمة على توازن العقل واندفاعة القلب والعاطفة، وربما يحدث هذا أكثر مع المواطن العادي الذي لا يهمه إلا توفر السلعة دون التفكير في كل التبعات التي قد تترتب على توفر هذه السلعة أو تلك. وربما أيضاً، وكما أسلفنا قبل قليل، فإن قسوة الحصار والبحث عن توفير البضائع والمنتجات يجعل بحث المواطن العادي مشروعاً، بل إنه يعبر عن رغبة فطرية في تجاوز آثار الحصار وتبعاته على حياته وعلى تفاصيل يومه، خاصة حين يتعلق الأمر بالأساسيات التي تمس قوت أطفاله وصحتهم مثل الحليب ومستلزمات الطفولة والصحة والأدوية والبيئة وأشياء أخرى كثيرة.
لكن المؤكد أن ما أشير له من الوفرة في المنتج الأجنبي ليست في تلك المنتجات الهامة. أي أن ما يمكن ملاحظته ليس غياب المنتج الوطني في مجال مستلزمات الأطفال وطعامهم الصحي ولا في الأدوات الصحية والأدوية أو متعلقات البيئة وما شابه، إذ أن هذه في الكثير من نواحيها يمكن أن نتفهم وجود البضائع الأجنبية والماركات الخارجية منها، لكن الحديث يدور مثلاً عن بضائع ومنتجات يمكن بكل سهولة توفير بديل وطني لها، بل إن من شان هذا البديل أن يعطي دفعة هامة للاقتصاد الوطني كما يمكن وبسهولة التخلي عنها عند الضرورة، فبعضها يأتي في قائمة الكماليات التي لا تؤثر على الحياة ولا على جودتها إلا عند البعض الذي سيرتفع مستوي الجودة بالنسبة له كثيراً، وبالنسبة للبعض الأخر ليس إلا تنويعاً لا لزوه له، وهو ليس إلا منافسة غير عادلة مع منتج محلي متوفر.
عليك أن تتخيل مثلاً ما الحاجة لاستيراد المياه المعدنية من تركيا وبوفرة مرعبة في الأسواق تبدأ من الزجاجة التي تساوي شيكلاً إلى الزجاجة الكبيرة، هذا في ظل وجود مياه معدنية محلية أو حتى لو لم تتوفر هذه المياه يمكن تشجيع معالجة المياه المحلية وتعبئتها وبيعها، وهي صناعة موجودة أصلاً.
أما الصدمة الكبرى في هذه الوفرة غير المبررة من العصائر الأجنبية والإسرائيلية من كل الماركات التجارية ومن كل الأصناف. لا حاجة للقول إنه يمكن بسهولة استبدال هذه العصائر بالعصائر المحلية التي حتى لو تدنت جودتها عن الجودة المستوردة يجب تشجيعها والعمل على تطوير تلك الجودة.
أيضاً الحديث يدور عن مواد السمانة الأساسية التي تنتجها السوق المحلية وصارت الآن لا تتوفر إلا بأغلفة أجنبية. ولا داعي لاستذكار «الشوكلاتات» والبسكويت وحلوى الأطفال والمنتجات البلاستيكية.
هل من يتذكر كيف كانت غزة تصدر الجينز وتصنع منه عشرات آلاف القطع يومياً وصارت اليوم تستورده من الصين وبجودة أقل وبأسعار لا تقل عن سعره المحلي.
مرة أخرى، كما في كل شيء، فإن الاحتلال يتحمل مسؤولية كبرى عن كل ذلك، لأنه كما يفعل في كل مناحي وقطاعات الحياة، عمل وبطريقة ممنهجة على تدمير البنية الصناعية في قطاع غزة كما في الضفة الغربية، من خلال استهداف المصانع بشكل مباشر وإيقاع إضرار جسيمة فيها، ومن خلال تعطيل وصول المواد الخام وحركة نقل البضائع على المعابر. والمؤكد أن هذه السياسة كانت جزءاً ومكوناً أساسياً من سياسة حرمان الشعب الفلسطيني من الاستقلال الاقتصادي الذي هو أساس أي استقلال وطني، وحرمانه من فرصته في التنمية والتطور. ويمكن للأرقام والبيانات حول ذلك أن تكون صادمة وكاشفة للكثير من الحقائق المتعقلة بهذه السياسة.
لكن مرة أخرى الأمر يتعلق بنا، فثمة ما يقع علينا من مسؤولية في ذلك. وهي ربما المسؤولية الأكبر، إذ من السهل لوم الاحتلال لكن الصعوبة تكمن في لوم أنفسنا، كما يمكن تفهم اندفاع المواطن وبحثه عن البضاعة وتوفرها، وأيضاً يمكن على مضض فهم جشع التجار وبحثهم عن الربح الصافي وعدم رغبة رأس المال بالمجازفة في تطوير الصناعة والبحث بدلاً من ذلك عن الاستيراد المضمون، لكن ما لا يمكن فهمه هو أن تترك البلاد على الغارب بلا حسيب ولا رقيب وبلا تنظيم للنشاط التجاري، بحيث لا يكون استيراد البضائع الأجنبية على حساب المنتجات المحلي.
في مرات كثيرة فإن «حماية» المنتج الوطني هي مهمة وطنية تتطلب تدخلاً من الدولة، وأظن أن كل دول العالم في فترات كثيرة من حياتها عملت ذلك قبل أن تصل إلى السوق المفتوح، لا أن تتحول إلى سوق ومكب لبضائع الغير.
النقطة الأخيرة في هذا النقاش تتعلق بالمنتج الإسرائيلي الذي بات أكثر وفرة من أي وقت مضي خاصة في ظل الكفاح الوطني لمحاربة انتشار البضائع الإسرائيلية في الأسواق المحلية، وهي حملة تلقى رواجاً ويجب تعزيزها عبر نشر ثقافة المقاطعة لتصبح جزءاً من وعي الناس وممارستهم الفطرية، هل من سيصدم حين يعرف أن منتجات المستوطنات متوفرة أيضاً خاصة منتجات البحر الميت، عموماً يستحق الأمر وقفة جادة لا تختلط فيها المشاعر بالمصلحة الوطنية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية