لم يعد الناس ينتظرون ولادة الحكومة كما السابق، سواء تشكلت أم لم تتشكل، أعلنت أم لم تعلن؛ كأن الأمور أصبحت متشابهة ،فهي ليست وليدة توازنات قوى سياسية أفرزتها صناديق الاقتراع بعد أن أطاحت بقوى وأنتجت مفاجآت... ولسنا مشغولين بالتكهن: أي حزب سيتحالف مع من، وما هو شكل هذه الحكومة .. فالحالة لم تعد تحمل ما هو جديد في كل الملفات وليس هناك ما نتابعه.
فالانتخابات التي تعيد إنتاج النظام السياسي متوقفة منذ عقد والصراع بين الفلسطينيين مجمد منذ ما يقارب العقد أيضاً والهوة تتسع بالتقادم، والحديث عن المصالحة يتباعد أكثر والاتهامات تتزايد أكثر حد التهديد باستعمال السلاح مرة أخرى كأن مأساتنا الأولى لم تعد كافية وانكسارنا الأول مدعاة للفرح لنعيد إنتاجها من جديد في ذروة البحث عن سراب المصالحة المتبدد.
لا أحد يسأل عن الحكومة لأن الجمود هو السائد في السياسة المتحركة، بماذا كلفت وماذا أنجزت، أين نجحت وأين أخفقت؟ فلا فصائل ولا قوى ولا مجلس تشريعي ولا شعب يحاكم كل أربع سنوات ولا احتكام لدستور ولا لرأي الشارع، ولا ولاية بدأت ولا ولاية انتهت ولا أحد يريد انتخابات ولا أحد يقدم استقالته خجلاً من مواطن حدد له مدة التفويض لأربع سنوات فكل شيء يسير بالدفع الذاتي ولا أحد يعرف إلى أي محطة سيصل.
عدد المتقدمين لامتحانات التوجيهي بلغ هذا العام 80 ألف طالب، هذا يعني أن لدينا نفس هذا الرقم وأكثر من الذين لم يصلوا لتلك المرحلة يدخل السن القانونية لممارسة حقه في الانتخابات، ذلك يعني أن لدينا في العقد الأخير منذ آخر انتخابات حوالي ثمانمائة ألف ممن يحق لهم اختيار ممثليهم لم يشاركوا وإذا افترضنا أن عدد الوفيات في فلسطين نصف هذا الرقم ذلك يعني أن لدينا انزياحة بأكثر من مليون ناخب والنتيجة أن من هم موجودون لا يمثلون أكثر من نصف الكتلة الانتخابية الحالية، وحوالي نصف كتلتهم التي يمثلونها أصبحت في عداد الوفيات.
هذه الأرقام لا تعني أياً من المنتخبين، فقط تعنينا نحن المراقبين والشعب المحكوم بقوة السلاح وقوة الانقسام وقوة الانقلاب ولا حول لنا سوى الانتظار ومتابعة الاتهامات والتهديدات ولم نستفد من تجربتنا المريرة ولا تجربة العرب الدموية عندما اختلفوا وتصارعوا فدمروا أوطانهم ولا من تجربة إسرائيل القوية التي كلما اهتز نظامها السياسي تعود فورا للشعب ليبث فيه روحاً جديداً ويعيده للحياة قبل أن يسقط على الأرض فيما نحن شبعنا من السقطات.
أي شعب نحن وأية قوى تلك التي تقبل على نفسها حالة العجز التي تحيط بنا وتتغلغل في كل مفاصلنا، وأية فصائل تلك التي أعلنت الحرب على نفسها من أجل سلطة تحت الاحتلال والحصار والتجويع والدمار وأي واقع هذا الذي جعل من التقدم والتراجع والثبات كلها خسارات ولم يترك لنا سوى القفز نحو المجهول خياراً وحيداً، وأي مجهول يحتمله شعب يصحو كل يوم على سرقة أرضه وبحره ويصحو كل يوم على حصار وجوع وفقر ومعابر مغلقة وأزمة كهرباء بل أن المنطق يفرض أن تكون الحسابات دقيقة على ميزان بائع الذهب فنحن أمام عدو يفاجئنا بتحقيق ما كان يخطط لنا منذ عقود.
إسرائيل ليست قوية بل نحن الضعفاء .. إسرائيل ليست ذكية بل نحن من أحرق سفن خياراته وكشف مبكراً سبل مناوراته في ذروة نهمنا على السلطة والرتب والرواتب والمناصب، نخوض معاركنا ضد إسرائيل وضد أنفسنا في حالة من التيه فلم نحقق شيئا لم نصل للاستقلال ولم نوقف استيطاناً ولم نرفع حصاراً ولم نبن مؤسسات أو اقتصاداً، مدججون بالنوايا الحسنة حد السذاجة أمام خصم لديه من فائض المكر والدهاء، جعلنا مدعاة للشفقة.
إن الصراع الذي دار على السلطة ولم ينته حتى التهديدات الأخيرة أثبت فشلنا في بناء النظام السياسي وأثبت أننا لسنا قادرين على ممارسة لعبة الديمقراطية وأصولها، وأننا لا نحترم الصندوق ولا المواطن ولا القانون وأن ثقافة الأحزاب هي ثقافة قبلية قديمة تعود لمفهوم الراعي والرعية .. الحزب العبقري والرجل العبقري وأمة القطيع وهنا أزمة الاغتراب السياسي لدى المواطن حيث النصوص النظرية للقوانين بعيدة تماماً عن واقع غارق في الاستبداد.
لدينا جيل من الشباب حتى عمر الثمانية وعشرون عاماً لم يشارك حتى اللحظة في أية انتخابات أو محروم منها أحدهم في منتصف العشرينيات قال لي: «أحلم بأن أنتخب» تصوروا أصبح ذلك حلماً بعيداً للمواطن .. بعضهم هاجر ليمارس حقه في دول أخرى وبعضهم مات في البحر، لقد أصبحت كل شعارات السياسيين بلا قيمة ولا ثقة بالوعودات والتصريحات والآمال لأن كل ما قيل وتداوله المواطنون وتناوله الكتاب والمحللون أثبت أن السياسيين لم يكونوا يعنون ما يقولون، فقط يوزعون كلاماً كأي مواطن ولم نعد نجد الفرق بينهم.
شكلت الحكومة أم لم تتشكل لم يعد مهماً فهي ليست نتاج عملية سياسية سوية وليست ابنة الصندوق، وهنا في غزة شكلت حماس حكومة أم لم تشكل لم يعد مهماً أيضاً فهي قائمة بضرائبها وجباياتها وسطوتها وأمنها ومعابرها وكل شيء .. ليس هناك جديد فالحكومات تشبه الفراغ والفراغ يشبه الحكومات والحالة التي نعيشها.
حالة التذمر تتسع بين الكتاب في الفترة الأخيرة والأصوات بدأت ترتفع فيما يكتب؛ لأن ما هو قائم من انقسام وجمود لم يعد مقبولاً فالمسألة تجاوزت صراعاً على السلطة بقدر ما أصبح الأمر إهداراً وضياعاً للمشروع الوطني وللمواطن الذي ينزف، لأن ما تحقق في الآونة الأخيرة لا يتناسب مع ما تدفع من أثمان وما هو قائم لا يتناسب مع أصول وقواعد بناء الأنظمة السياسية وهو تعدي على حق المواطن وحرمانه من المشاركة والانتخابات، ومع كل ذلك لا زلنا نتراجع ولا يزال البعض منا يحلم بالانقلاب في الضفة كأنه يقول لنا بأن سلاحه هو مصدر حكمنا وليس صوتنا ورأينا، فأي وعي هذا وأية ثقافة سياسية تلك؟
Atallah.akram@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية