«من لم تجمعني بهم الأيام، تتكفل الأحلام جمعنا». وتستدرك أم شهداء آل الكسبة: «كنت أحاول إنقاذ فرحتي بلقاء الأحبة في رؤيا الليلة السابقة، كنت أنوي البقاء في حلمي ما استطعت، لكني خفت عواقب المشهد».
السيدة المنحوتة على حجر تتدحرج جملها أمامي كمصفوفة؛ كانت تغمض عيناها لتقهر دواراً يتمادى على حزنها.
تقول أم الشهداء الثلاثة: «في هذا اليوم بالذات، لم أحب أن استيقظ، ولكن إغلاق الباب بقوة إنذارٍ جَلَل، نقلتني إلى النافذة.. «كان جسده الممشوق يختفي خلف جدران المخيم المتلاصقة، استعجل «محمد» الالتحاق بأخويه، نار الشوق جعلته يحرق المراحل، ذهب إلى آخرته وعمره ناقص».
«لقد لوَّحت بيدي مودعة الموت أثناء سحبه «ياسر وسامر»، لكنه عاد على رؤوس قدميه بخفة متناهية». قالت قولها وصمتت.
كنت أتأبط شرّ أسئلتي بينما ألملم تساقط المصفوفة، وبين الفينة والأخرى أنتظر إشراقة دمعتين وبزوغ الوردة. لم يكن ثمة وردة، ولم ألحظ أي دمعة. الشعراء يتبعهم الغاوون، لقد أوجعوا أهل القصيدة..
ثمة فراغ بارد، شعور قوي بعالم ناء، يوم جديد مفعم بالقلق والفزع. شبح صورتين غيبهما ملصقات تتراكم على جدران رمادية في مخيم قلنديا.
لقد عاد ياسر وسامر من رحلة الموت لاصطحاب الرِجل الثالثة للكرسي، في لعبة قدر مرسوم بانتفاضات وهبات، وشهداء يسحبون شهداء..
كانت السيدة المنحوتة على حجر تلحظ بحثي عن تأصيل الحكاية: «أرجوك اتركيني استمتع بصمت البكاء. إنه الوقت الوحيد الذي أملكه وحدي، كل السواد لي». تنزوي أم الشهداء في ثياب الحداد، أقام الفقد في قلبها واستوطن.
«سنوات وأنا أقاوم خوفي السرّي على مشروعي الثالث في الحياة. كنت كشجرة تنتظر طرح الثمرة». توْق الشهيدين إلى الاجتماع بأخيهما تؤرق أحلامها. تخشى تسلق الصورة الثالثة جدران المخيم المتعب. فجأة تصبح الأحلام الغامضة مفهومة لذهنها المشوش، وينكشف سرّ اختفاء المقتنيات الثمينة إلى الأبد.
ألحُ عليها، أين الوردة في حكايتك! «استمرار امتشاق الجسد النحيل الحجارة، ترفُّع الجسد الممشوق عن الأرض، جدار يفقد هيبته، وخبر عاجل يتصدر الأخبار، جنازة لائقة وهتافات وبيت عزاء، ظنٌّ بأننا ثورة مستمرة.
أقول: ستسمعين حلو الكلام؛ لا حُرَّه. ستحصدين الخيبات، إنه حظنا الوفير. ستعتادين قهر الغياب، ستبقين تتساءلين لماذا أنا من يختارني الموت لاختبار الصبر عليه، لماذا أنا من يتعذب ويدوخ ويُفترس أبناؤها واحداً واحداً».
أسألها اين ذهبت بأسطورة الدمعتيْن! تقول: «تكهربت دموعي ونزّ جلدي الجمر من كثرة نبش قبورهم.
أوافقها الرأي وأزايد: «ثمة تغيير جديد على طقوس الشهادة والشهداء، نحن نسير على جمر الطرقات.
ليس من زغاريد أو أناشيد ثورية تخرج من بيوت عزاء الشهداء.
ينتهي الحوار، معذرة من الشعراء والزجالين والأهزوجة، لا يتكامل وطن الشهداء، نحن يا غاليتي من وديان لا يتبناها قوس قزح. نحن يا صديقتي اختبرنا الموت أكثر من الحياة، نسير في مهب الرياح، تطاردنا الذكريات وتطردنا الحياة مهما حاولنا هدهدة ما تبقى من العمر، لنتناسى جفاف الخاتمة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية