برأيي أن هذه المعادلة هي القائمة الآن في منطقة الإقليم. لم تعد الحرب الإقليمية الشاملة، أو أحد أشكالها مسألة مُستبعدة بنفس الدرجة التي كانت عليها طوال العام الذي انقضى على الحرب في أوكرانيا.

صحيح أنه لم يُتّخذ القرار بشأنها بعد، إلّا أنّ إمكانية اندلاعها تتزايد أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

الدوافع لمثل هذه الحرب كثيرة ومُتعدّدة، وتتبادل فيما بينها موقع الصدارة والأولوية، بعضها جديد وحسّاس، وما خفي منها يتكشّف يوماً بعد يوم، تباعاً وبسرعةٍ كبيرة.

إذا رجعنا قليلاً إلى الوراء، لا بدّ أن نلاحظ، بقدر ما يتعلّق الأمر بالحرب التي تدور في أوكرانيا أن "الغرب" لم يعد بنفس درجة "الثقة" التي كانت تبدو عليه قبل عدة شهور فقط.

المُجريات الميدانية لهذه الحرب أصبحت تُقلق "الغرب" في الشهور الأخيرة، وفي الأسابيع القليلة الماضية، ولم يعد هذا "الغرب" واثقاً بأن بمقدور القوات الأوكرانية "الصمود" أكثر ممّا صمدت حتى الآن، وأصبح يشكّ في قدرتها على الاحتفاظ بدفاعاتها الاستراتيجية الكبيرة لا في الشرق ولا في الشرق الجنوبي، بالرغم من كل الدعم الهائل والنوعي والأسلحة المتطوّرة التي يقدمها "الغرب" لهذه القوات. هذه المُعطيات والوقائع الميدانية وضعت "الغرب" أمام "مُنحدر انزلاقي" خطر وحسّاس.

كلّ أنواع الدعم أصبحت عاجزة عن إحداث أيّ تغيّرات جوهرية في مسار تلك الحرب، ولا حتى بالمعنى الجزئي والنسبي لهذه الكلمة، ما يحوّل هذه الحرب إلى عملية استنزاف مُكلفة للغاية في كل الاتجاهات، وعلى مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، ناهيكم طبعاً عن حساسية وأخطار المستوى الأمني والعسكري.

لكن مأزق "الغرب" هنا هو خسارته للمبادرة الاستراتيجية فيها.. فهو إن ذهب إلى التفاوض الآن، فلن يتمكن من فرض ولا مجرّد شرط واحد من شروطه، وإن استمرّ في "مسلسل" الدعم المنفلت لن يأمن على نفسه حتى لا نتحدث عن تأمين أوكرانيا.

"الغرب" "يُلاطِش" مثل المُصابين بلوثةٍ عقلية، لم ينفع دعم هائل، وتدريب، وإعداد على مدار عقدٍ كامل لكي تكون أوكرانيا أداته الفعّالة في تقويضه الدولة الروسية، وعلى مدار عامٍ كامل من الحرب لم يتمّ تحقيق أهداف "الغرب" في المراهنة على انهيار الاقتصاد الروسي أو إحداث أيّ "تصدُّعات" في الجدار السياسي للدولة الروسية. في حين أن الغرب هو من يُعاني من ذلك بالذات.

وجوهر المأزق هنا هو أن روسيا تُحارب على الأرض الأوكرانية كل الإمكانيات لأكبر وأقوى دول "الغرب" بمفردها، ولهذا فقد "الغرب" صوابه، وهو يبحث الآن بكلّ السبل والوسائل عن "مُبرّرات" وعن أسباب يمكن أن تساعده في "توضيح" خارطة الإخفاقات المتتالية هناك.

في هذا الإطار رفع "الغرب" من وتيرة استعداء الصين، وأصبحت "اللغة" التي يتحدّث بها عن "الدعم العسكري" من الصين لروسيا أقلّ تهذيباً، وتنطوي على استفزازات أعلى من السابق، وعلى تهديدات تتحوّل أكثر فأكثر إلى تهديدات من النوع الرمادي بين المبّطن والمباشر.

وهنا أصبح "الغرب"، وخصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل يتحدثون عن مشاركة إيران المباشرة في هذه الحرب، في إطار علاقات خاصة مع روسيا، وشراكات استراتيجية معها ومع الصين، وصلت إلى حدود التحذير من امتلاك إيران لأنظمة دفاعٍ جوي متطوّرة (S400)، ومحرّكات صواريخ كبيرة وفرط صوتية.. هذا كلّه من جهة، أما من جهةٍ أخرى فإن الأزمة الإسرائيلية تشكّل الوجه الآخر للتهديدات الأميركية.

إسرائيل الغارقة في أزمتها المستفحلة لم يعد بإمكانها الخروج من هذه الأزمة بإحراق "حوّارة" أو نابلس أو جنين أو مخيم شعفاط، ولا حتى بافتعال معركة ولا حتى "حرب" مع القطاع، وذلك لأن تكتيكات "الهرب" إلى خيارات كهذه باتت مكشوفة، وهي لن تزيد طين بنيامين نتنياهو إلّا بلّة على بلّة.

لم يعد أمام نتنياهو سوى إيران!

هذه المرّة ربما سيتمكن من "إقناعها"، أي الولايات المتحدة، وهي أكثر استعداداً "للاقتناع" إذا ما وافق نتنياهو على شروطها وحدودها، وإذا ما "التزم" بالضوابط الأميركية لحرب كهذه.

أهمّ هذه الشروط هو انخراطه في الحرب الأوكرانية، والتعاون بالكامل مع هذا "الغرب"، وبأن لا تكون الحرب شاملة أو طويلة، وأن لا "تتعدّى" ضربات تدميرية مُركّزة على ما تعتقد الولايات المتحدة، وكذلك إسرائيل لمواقع تشكّل عصب البرنامج والصناعة النووية الإيرانية.

هذا الاحتمال الذي يكبر في كلّ يومٍ هو الخيار الوحيد أمام أميركا وذلك لأن الحرب المباشرة على سورية أصبحت "صعبة"، بعد الزلزال، وروسيا هناك تعرف كيف تفرّق بين غارات هنا وهناك وبين حربٍ تُشنّ على كلّ سورية، وعلى كل جيشها ومواقعها ومرافقها.

والحرب على لبنان كذلك محفوفة بمخاطر نسف "اتفاقيات الغاز"، وكذلك بردود أفعال عسكرية ليست بسيطة من قبل "حزب الله" هناك.

وكما أوضحنا ليس من مصلحة إسرائيل إعادة "إدماج" قطاع غزة في معركة الضفة الغربية طالما أن حركة حماس ما زالت ملتزمة بعدم التدخُّل، وكل ما يهمها هو بقاء سيطرتها على القطاع وتكتفي بـ "الهمّة الإعلاميّة" ليس إلّا.

أقصد أن كل المعارك والحروب ضد الضفة أو سورية أو لبنان لا تشكل فرصة مهما كانت ضئيلة لخروج إسرائيل من هذه الأزمة العميقة. بل إن العكس هو الصحيح، وبدلاً من الخروج الآمن لن تجني إسرائيل سوى المزيد من الأزمات لتُضاف إلى أزماتها.

وحتى على المستوى الدولي كل الطرق مقفلة أمام الولايات المتحدة و"الغرب". لا أحد يمتلك شجاعة المسّ بكوريا الشمالية، وقضية تايوان "خطرة" جدّاً على توريدات الرقائق الالكترونية التي تزيد نسبة اعتماد الولايات المتحدة منها على تايوان بأكثر من 60% من احتياجاتها، ناهيكم عن مخاوف الردّ الصيني المُدمّر.

"أضعف" حلقة، من وجهة نظر الولايات المتحدة وإسرائيل، وكذلك بريطانيا وفرنسا في أوروبا هي الحلقة الإيرانية، وخصوصاً بعد التدهور الكبير الذي يقول به "الغرب" عن الاقتصاد الإيراني.

لاحظوا هنا أن إيران نفسها "استدارت" سريعاً، وأصبحت تفكّر مليّاً بتفادي هذا الخطر الذي يراه، أو يمكن أن يراه "الغرب" وإسرائيل "فرصة" خاصة قد لا تُتاح في أيّ مرحلةٍ قادمة.

ولاحظوا تحديداً كيف أعطت إيران لوكالة الطاقة الذريّة الضمانات التي كانت ترفض إعطاءها لهذه الوكالة بصورةٍ باتّة.

أقصد أن إيران اشتمّت رائحة الدم وسارعت إلى هذه الاستدارة المباغتة، لا "تسامحاً" ولا مصادفة على الإطلاق.

الأمر وما فيه، أن الأزمة الإسرائيلية باتت من دون "حل" من أي نوعٍ كان، وحتى لو سقطت الحكومة العنصرية فإن الأزمة ستصبح أعمق وأكثر خطراً على كلّ مناحي الحياة فيها.

قبل أسابيع كنّا نتحدث عن شارعٍ بعشرات الآلاف، واليوم بمئات الآلاف، فلماذا لا تفكّر الولايات المتحدة "بتخليص" إسرائيل من هذه الورطة أملاً في منع تحوّلها إلى كارثة سياسية و"قومية" مصيرية؟

لا أحد بمقدوره أن يُخمِّن فيما إذا كانت حسابات الولايات المتحدة هنا ستكون صحيحة أو دقيقة، مع أن إسرائيل لم يعد يهمّها هذا الأمر بالذات. وبالمقابل لا أحد يستطيع ضمان أن تبقى الأمور محصورة في الإطار الجغرافي الإيراني، أو أن ردّها سيكون ضربة مقابل ضربة، وموقعاً مقابل موقع.

وأكثر ما يُوحي بكلّ هذه الحالة في الإقليم الزيارات المكثّفة والخاصة الأميركية ذات الطابع العسكري والأمني المُحدّد.

ما يدور من تحرُّكات أميركية يُحفّز حاسّة الشمّ لدى كلّ من لديه حاسّة سليمة، وكلّ من يعي عُمق الأزمة الإسرائيلية، واستفحال أزمة الحرب الأوكرانية على "الغرب" كلّه.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد