لو كانت هذه المقايضة مجرّد حالة استرضاء متبادل، وفي ظروف "عادية" أخرى، لأمكن ربّما "تفهُّم" خلفياتها ودوافعها والنتائج المرجوّة منها، حتى ولو على مضض.
ولو كانت المسألة تتعلق باستبدال قرار يصدر عن مجلس الأمن، في حالة أن الولايات المتحدة امتنعت عن التصويت، حتى لا تُحرج باستخدام "حق الفيتو" لأمكن ربّما، أيضاً، اعتبار مقايضة كهذه من نوع المساومات "الضرورية" والمشروعة في ظرفٍ طارئ ومؤقّت.
أمّا أن تجري هذه "المساومة" بهذا الشكل، وبهذه النتائج "الافتراضية" الفارغة من أي قيمة عملية أو حقيقية فهذا يعني الكثير، ويؤشّر على ما هو خطير على حدود ومساحات الدور الرسمي للمؤسسات الفلسطينية في هذه الظروف الاستثنائية، بل المصيرية، أيضاً.
محاولة تنميق وتزويق الاتفاق لن تُجدي نفعاً، ولن يتمكن أحد من تسويق ما انطوت عليه من طبيعة نهج، ومراهنات، ومن تراجع الدور، وانحسار مساحة الفعل والتأثير في الواقع الفلسطيني الجديد الناشئ عن مجمل الحالة الوطنية.
الولايات المتحدة تمكّنت من خداع القيادة الفلسطينية، وأمّنت لنفسها مخرجاً مناسباً من حالة الإحراج السياسي التي كانت تبحث عنه، وباعتنا مكاسب لا قيمة لها وردت في البيان الرئاسي الصادر، واشترينا تلك البضاعة الرخيصة بأعلى الأثمان.
ليس هذا فقط، وإنّما جرى تصوير "الخسارة" الإسرائيلية من هذا البيان، ومن تلك المكاسب وكأنها فادحة!
لا يتضمّن البيان أيّ جديد، و"المكاسب" التي تحدثت عنها المؤسسة الرسمية الفلسطينية هي مجرد وعود تم التراجع عنها ــ فهي ليست جديدة، أيضاً ــ لعدة مرّات متتالية، ولم يتم التقدم ولا في أي بندٍ منها منذ الحملة الانتخابية، وبعد تولّي الإدارة الأميركية الحالية مقاليد هذه الإدارة.
المكاسب الحقيقية من هذه "الصفقة" كانت من نصيب الإدارة الأميركية، ومن نصيب إسرائيل، وأمّا "المكاسب" الفلسطينية فهي ليست أكثر من أوهام صغيرة سينكشف أمرها سريعا.
ففي ظلّ المعلن على رؤوس الأشهاد من قبل حكومة بنيامين نتنياهو التي تعيش أعمق أزمة مرّت بها دولة الاحتلال والعنصرية والإفصاح التام عن هذه العنصرية، وعن النفي "المعلّق" لوجود احتلال، والتمسك التام بـ"أرض إسرائيل الكبرى"، وفي ظل القوانين التي تأتي تباعاً لشرعنة الاحتلال كلّه، وتحويل الاستيطان إلى الهمّ الأول والأخير، وفي ضوء طرح برنامج الحسم للصراع كلّه، على أساس النفي التام لوجود حقوق وطنية فلسطينية، أو حتى تاريخ للشعب الفلسطيني على "أرض الشعب اليهودي"، والعمل المعلن والرسمي على تصفية "حل الدولتين"، وتشييع جنازة هذا الحل.. في ظلّ ذلك كله كانت الإدارة الأميركية ستكون في أكبر مأزق لو أنها اضطرت إلى استخدام "حق النقض"، ولظهرت عارية تماماً أمام المجتمع الأميركي، وأمام دول العالم وشعوبها، وأمام مؤسسات القانون الدولي، ولكانت فضيحتها "بجلاجل" من حيث ازدواجية المعايير، ومن حيث ما تبقّى لها من بقايا حُطام المصداقية.
ولأنّ الولايات المتحدة والغرب كله "يمرُّون" في مرحلة "حاسمة" من الحرب التي يخوضونها بالوكالة في أوكرانيا، ولأن "الغرب" لم يتمكن مع كل الدعم الذي يقدمه لأوكرانيا من منع تقدم القوات الروسية، وبات هذا الغرب أمام تحدّيات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، فإن مقايضة قرار مجلس الأمن، ببيان، وبحفنة وعود، مقابل حاجة الولايات المتحدة لهذه المقايضة يعتبر انتصاراً كبيراً للإدارة الأميركية بثمنٍ أرخص من الفجل.
وأما دولة الاحتلال فإن ما حصلت عليه أكبر من ذلك بكثير.
ماذا يعني أن يتضمّن البيان اكتفاء إسرائيل بشرعنة تسع بؤر استيطانية في هذه المرحلة؟
وماذا يعني "التوقف" عن البناء الاستيطاني لعدّة شهور؟!
وماذا يعني ذلك سوى أننا سجّلنا على أنفسنا القبول بشكلٍ أو بآخر بهذه "الشرعنة"؟ وماذا يعني وقف البناء الاستيطاني لعدة شهور طالما أننا عملياً لم نعد نعترض على البناء في البؤر التي تمّت "شرعنتها"، أو التي شرعنها البيان، وهل بإمكان إسرائيل أصلاً أن تبدأ بالبناء الاستيطاني المفتوح في تسع بؤر استيطانية، ومن أين ستأتي بالموارد والميزانيات لأكثر من ذلك؟
وهل سيصعب على إسرائيل في غضون عدة أسابيع فقط العودة إلى سياسة هدم المنازل؟ وهل ستعدم إسرائيل "المبرّرات" والوسائل والذرائع التي ستسوقها للعودة عن هذه السياسة، بل وهل تحتاج إسرائيل أصلاً إلى أي حُججٍ أو ذرائع لمثل هذه العودة؟
وهل ندرك أن عدم اقتحام مناطق "أ" و"ب"، مجرّد أوهام لن يوافق عليها أي طرف صهيوني من الحكومة و"المعارضة" على حدٍّ سواء؟
الحقيقة المُحزنة هي أن الحالة الفلسطينية كلّها تخشى من تحول العملية الكفاحية إلى هبّات شعبية، وإلى انتفاضات كبيرة بمشاركة شعبية واسعة، وتخشى كل الحالة الرسمية الفلسطينية، من مؤسسات وفصائل وأحزاب، في الضفة والقطاع من: إمّا إفلات الأمور من أيديهم، أو تحاول التقاعس عن إسناد هذه الحالة الشعبية التي تشكّل خطراً على كل هذه المنظومات.
ولهذا فإن المشاركة الشعبية المتعاظمة في التمهيد لانتفاضة وطنية عارمة، وربما غير مسبوقة هي الهاجس الذي يقضّ مضاجع هذه المنظومات، ومن الناحية العملية فإن المنظومات لا تفعل في الواقع أكثر من "المساهمة" في هذه العملية التاريخية، والتي هي في طور المقدمات أكثر مما تفعله أي ظاهرة صوتية، ولا تبدّل في الواقع، ولا تؤثّر فيه بأكثر ما يقدمه بيان سياسي أو خطاب حماس ي حول الانتفاضة المرتقبة.
لو تم التمسك بالذهاب إلى التصويت لأمكن الحصول على مكاسب حقيقية سواء استخدمت الولايات المتحدة "حق النقض" أو تخلّت عن استخدامه.
ولأن البضاعة التي باعتها لنا الإدارة الأميركية رخيصة الثمن، ولأن الإدارة الأميركية طلبت من إسرائيل بعض "التنازلات" في الجانب "الإعلامي" من البيان، وليس في جانب "المكاسب" التي يتم التحدث عنها منذ دشّنت إسرائيل أول (مكاسبنا الكبيرة) باجتياح عاصمة "جبل النار"، الذي أسفر عن عشرة شهداء حتى ساعة كتابة هذا المقال، والعدد مُرشّح للارتفاع بسبب حالات الخطر من بين أكثر من مائة وثلاثة جرحى.
نهج المراهنات على الإدارة، أو الإدارات الأميركية يصعب الاكتفاء بوصفه نهجاً عقيماً، لأن المسألة تتعلّق ــ على ما يبدو ــ بانعدام الخيارات البديلة عن هذا النهج الذي يتحوّل إلى مزمن وثابت ووحيد.
لكن للوهم والخداع وجهه الآخر، وذلك لأن من يعتقد بأن "وأد" الحالة الكفاحية المتصاعدة قد يكون ممكناً، أو حتى مجرّد وقف تصاعد وتنامي الغليان الشعبي ضد الاحتلال، فإنهم لا يتمسكون سوى بالأوهام، وينطبق ذلك على الإدارة الأميركية، وعلى دولة الاحتلال، وعلى كل المخدوعين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية