تركتْ الحياة الرقمية أثراً كبيراً على علاقة الفرد بالصورة الشخصية، وأدّت تقريباً إلى اختفاء فكرة ألبوم العائلة أو الألبومات الشخصية، وتحوّلت علاقة الفرد بصورته الشخصية أو صورته مع الأهل والأصدقاء أيضاً إلى علاقة آنية، مثل تلك التي تحققها عملية التواصل الرقمي الحديث. انعكست التحوّلات الرقمية بشكل كبير على مجمّل حياتنا، وتركت أثراً واضحاً في فهمنا واشتباكنا مع هذا الواقع، إلى الدرجة التي لم نعد نحسّ فيها كم أصابت هذه التحولات وعينا أو طريقة فهمنا لأنفسنا.
جزء أساس من هذه التحولات هو انهيار جدران الخصوصية في العالم الرقمي، وما ارتبط بذلك مع تقبل لمنظومات جديدة مثلاً العلاقات، وتبدل واضح في فهم فكرة الأصدقاء. مثلاً لم يعد من الضروري أن يكون أصدقاؤك ممّن درسوا معك في المدرسة، أو لعبوا معك في الحارة، أو كانوا ذات مرة جزءاً من ذاكرتك وماضيك، فأنت بمقدورك أن تكسب أصدقاء لم يسبق لك أن قابلتهم في حياتك، وحتى لا تعرف عنهم شيئاً. وقد يصبحون أصدقاءك المقربين والحميمين دون أن تعرف حقاً شخصيتهم، أو أي شيء حقيقي عنهم. حتى فكرة الشيء الافتراضي لم تعد قائمة؛ لأن الحد الفاصل بين الافتراضي والحقيقي لم يعد قائماً، خاصة حين نتأمل التحولات الكبيرة التي أصابت مفاهيم الفن مثلاً، أو ألعاب الفيديو التي لم تعد ألعاباً، بل صارت عالماً يتم فيه التملك والاعتداء والتقاضي والاختصام.
أصابني الذعر قبل أيام وأنا أحاول أن أبحث عن صور لي مع أصدقاء خطفهم الموت فجأة. كنت متأكداً أنني خلال العقدين الماضيين التقطت عشرات الصور لي معهم في مناسبات عديدة. كنت أقوم بالبحث وأنا أتخيل حتى هذه الصور ومواقيت التقاطها، والمناسبات التي أخذت فيها. لم يكن يساورني شك بأنني سأجد العديد من تلك الصور. كان الحزن ينمو أكثر داخلي وأنا أواصل البحث وأتعثر في إيجاد أي دليل على وجود هذه الصور، فأغمض عيني وأستعيد تلك المناسبات العديدة التي التقطنا فيها الصور التي قصدنا منها تخليد تلك العلاقات وتلك اللحظات. الآن وقد مضوا إلى عالمهم الآخر لا يوجد دليل أننا قمنا بذلك. ببساطة لم أجد تلك الصور ولم أعرف كيف أستعيدها. صحيح أنني أتذكر كل لحظة التقطت فيها واحدة من تلك الصور، وأتذكر المناسبات واللحظات الجميلة، وربما الحوارات الطويلة التي كانت وراء كل تلك السعادة، لكنني أيضاً لم أكن أبحث في ألبوم أحتفظ به في الخزانة، أو مجموعة صور أضعها في درج «الكوميدينا»، بل كنت أبحث في موبايلي وفي اللابتوب وفي ملفات الذاكرة. ولم يكن ثمة شيء يؤكد أين يمكن أن تجد تلك الصور، أو أين قد أكون احتفظت بها في ظل تغير الجوّال وتبدّل اللابتوب، وفي ظل إعادة التهيئة المستمرة لكل الأجهزة. كل شيء يختفي ويذهب لأن الأساس في العالم الرقمي هو آنية تحققه.
حتى أن ذاكرتنا لم تعد ملكاً لنا، أو لم نعد نسيطر عليها، كما أننا لسنا قادرين على التحكم بإيقاعها. فصورك الشخصية ومناسباتك العامة يقوم «فيسبوك» بتذكيرك بها. فهو يعطيك إشعاراً بوجود ذكرى ما لك في مثل هذا اليوم. والعملية لا تكون منتظمة، بمعني أنه لا يعطيك كل يوم إشارة إلى ذكرى مررت بها على صفحتك في العام الفائت أو الأعوام التي سبقته، بل يقوم باختيار ما يراه مناسباً لك لتتذكره وفق «لوغاريتميات» محددة يتم تطويرها وفق تفاعلاتك على صفحتك، ومساحات التخزين، فيختار لك ما يلائمك حتى تتذكره، ويعرض لك صورك في تلك الذكرى. طبعاً يترك الأمر لك لتقوم بإعادة نشر الصور أم لا، لكنه يحدد لك المساحات التي تتذكر فيها، والمناسبات التي يمكن لك أن تستعيدها. لم نعد نلتقط الصور من أجل حفظها. صرنا نلتقط الصور في المناسبة ووقت حدوثها، ومن أجل تعميمها أو مشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي. المهم في التقاط الصورة هو مشاركة اللحظة مع الآخرين. لم يعد المهم أن نحتفظ بالصورة؛ لأننا لا نبذل أي جهد بعد أن نلتقطها من أجل الاحتفاظ بها: فلا نقوم مثلاً بتحميضها، أو الذهاب للأستوديو من أجل فعل ذلك، بل كل ما نفعله هو أن نلتقط الصورة، ونضعها على الموقع من أجل أن يعرف الآخرون ماذا نفعل.
ببساطة اختلفت علاقتنا نحن بالصورة. لم تعد الصورة شيئاً شخصياً حتى لو كانت صورتنا. ولم يعد القصد من الصور فكرة الاحتفاظ باللحظة والتذكر في المستقبل، بل صار مجرد توثيق آني ولحظي يقصد منه المشاركة الاجتماعية. طبعاً المشاركة الاجتماعية لا تعني التشارك مع الأهل والأصدقاء، بل التشارك مع المجتمع الافتراضي الذي هو عالمنا الجديد، ومع الأصدقاء الذين نعرفهم فقط من خلال ما ينشرونه.
وبهذا القدر لم تعد الصورة تعني الكثير أبعد من مهمتها الآنية، التي تتحقق بمجرد وضع المنشور أو التعليق ويراه الآخرون. ففكرة الصورة لم تختلف فقط، بل يمكن القول: إنها اختفت ولم تعد موجودة.
لم يعد هناك ألبوم، ولم تعد هناك حاجة للاحتفاظ بالصور. ربما التطور في مفهوم السرعة والممارسة المرتبط بالتصوير هو أيضاً ما اختلف. فلست بحاجة للذهاب للأستوديو، ولست بحاجة للوقوف نصف ساعة من أجل أن تعدّل وقفتك وهندامك، ولست بحاجة لدفع مبلغ من المال من أجل ذلك، أو لست بحاجة لشراء كاميرا وبكرات أفلام وتحميضها بعد ذلك. صار الأمر مجرد ممارسة عادية وسريعة، ويمكن أن تعيدها وتكررها وقتما تشاء ودون الكثير من الجهد.
حتى أن الصورة الرقمية ليست بذات الألفة والحميمية التي تبعثها الصورة العادية وأنت تمسك بها وتنظر إليها بشغف اللحظة التي مضت. الصورة على اللابتوب أو الموبايل لا تعطيك أياً من هذه الأحاسيس.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد