سأظل أذكر كارثة زلزال مدينة أغادير في المغرب، وقع الزلزال في ثالث أيام شهر رمضان ، وفي التاسع والعشرين من شهر شباط العام 1960.
كنتُ طالباً في المرحلة الإعدادية! هُجِّرنا من أرضنا منذ العام 1948، ونعيش في ملاجئ لا تختلف كثيراً عن ملاجئ مهجري الزلازل، كنا نستقي الأخبار ممن يملكون أجهزة الراديو القديمة، كانت مدارسنا هي وسيلة الإعلام الوحيدة!
سأظل أذكر كيف شحن طاقمُ التدريس عواطفنا نحو إخوتنا في المغرب، وكيف تمكنوا من أن يستثيروا نخوتَنا للتبرع لآلاف ضحايا الزلزال!
استمعنا في طابور الصباح لأخبار الزلزال، وأن عدد الضحايا تجاوز عشرين ألفاً، وأن مدينة أغادير السياحية الجميلة الواقعة على شاطئ المحيط الأطلسي أصبحت أثراً بعد عين، وأنها لم تعد صالحة للسكن!
وفي الحصة الأولى أحضر المدرس خارطة المغرب، وأشار إلى موقع مدينة أغادير فهي ميناء بحري، ومصدر الرزق الرئيس لصيادي الأسماك، كانت بؤرة صراعٍ بين فرنسا وألمانيا، وكانت محرضاً على إشعال الحرب العالمية الأولى 1914 - 1919!
سأظل أذكر أنني عندما عدتُ إلى البيت طلبتُ من والدتي قرشين لأتبرع بهما لإخوتي ضحايا زلزال أغادير لكي أشعر بنشوة المساهمة في نصرة إخوتنا المنكوبين في المدينة المدمرة، كُنا في حاجة القرشين، فهما ليسا زائدين على حاجتنا، ولكنَّني شعرتُ بأن التبرع بهما لم يسعدني فقط، بل أسعد والدتي، عندما سارعت في حَلِّ عقدة غطاء رأسها لتُخرج القرشين!
لم تكن عواطفنا قد جفت بعد، فالإنسانية والرأفة والمشاركة ظلت حيَّة في شعورنا، وهي جوهر الحياة ذاتها!
لم تغب عني صورة زملائي الفقراء ممن كانوا يضعون قروشهم بسعادة غامرة في صندوقٍ خشبي في مدرستنا، كان فيضُ العواطف أبرز سمات الحياة، وهو كذلك حافزٌ نضالي يوحدنا ويُغني عواطفنا!
ليست مدرستنا هي الوحيدة، بل شاركت فلسطين كلها في نجدة المنكوبين! كذلك أسهم الفنانون العرب في تقديم المعونة للناجين من الزلزال!
أقامت كوكب الشرق، أم كلثوم حفلاً خاصاً لدعم ضحايا زلزال أغادير، ووزعت خلال الحفل أزهاراً على الحاضرين لجمع التبرعات منهم أيضاً!
هكذا هزَّ زلزال أغادير في ستينيات القرن الماضي عواطفنا، وأخرج من أعماقنا التضامن والوحدة والحمية والشفقة، وهي مكونات النفس الفطرية السليمة!
للأسف، فإننا اليوم نعيش عصر جفاف العواطف، وكان مفروضاً أن تساهم شبكات التواصل الاجتماعي في تعزيز عواطفنا، غير أن كثيرين يشاهدون اليوم ضحايا الزلازل في سورية وتركيا بالبث الحي والمباشر وهم يئنون تحت الأنقاض، كفيلمٍ سينمائي، لا يحرِّكُ العواطف، ويأكلون ما لذ وطاب، ولا يتأثرون كثيراً بهذه الصور!
نعم، لقد ساهم كثيرٌ من حكومات الدول في تجفيف العواطف بفعل الخلافات السياسية والعقائدية، واعتبر الحكام الدكتاتوريون أنَّ شحن عواطف الشعوب بالرأفة والتضامن هو مقدمة للثورة على هؤلاء الدكتاتوريين، لذلك فقد صرفوا الاهتمام عن مآسي الكوارث بإلهاء الشعوب بمعارك هامشية، في مجالات أخرى، مثل، كرة القدم، وفتحوا المجال لنشر الجهالات وتفسير الأحلام، ووزعوا فنون السخافات، لتحطيم العواطف النبيلة، لأنها تهدد أنظمة حكمهم، وتنعش الأمل في مستقبلٍ عادل رحيم!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية