لم يكن الانقسام بين الفلسطينيين مجرد مصادفة وفشل لحظي للمتعاركين في ضبط خلافاتهم في مؤسسة واحدة، وليس من المصادفة أن يفشل الفلسطينيون بعد كل هذا الزمن الطويل في إنهائه.
صحيح أن الأمر يتعلق بالبيئة العربية التي يمتلئ تاريخها بصراعات السلطة ويرتبط بالتاريخ الفلسطيني الطويل في الانشقاقات منذ ثلاثينيات القرن الماضي والذي لم ينتج تجربة وحدة ولو لمرة واحدة، لكنّ للأمر بعداً آخر.
حين يتعلق الأمر بإسرائيل تندر المصادفات، وتبدو قراءة سياقات الحركة الفلسطينية بمعزل عن الفاعل الإسرائيلي قراءة قاصرة تستبعد هذا الفاعل الذي يعمل ليل نهار على تدمير الفلسطينيين باعتبارهم نقيضاً وجودياً لأمنه القومي يزاحمهم على نفس قطعة الأرض.
لذا ليس هناك حاجة للكثير من الوثائق للتأكد من إسرائيلية الانقسام كمشروع نجح وتجلى في هذا المشهد الذي تبدو فيه القضية الفلسطينية في أسوأ مراحلها.
صحيح أن كارثة الانقسام كارثة ملحة يفترض أن تقرع كل الأجراس كل صباح أمام بيوت كل المسؤولين عنها وعلى كل صفحات الجرائد ومنصات التأثير، ولكن الحقيقة أن تضاؤل الأمل بتحقيق اختراق في هذا الملف جعل إعادة الكتابة في نفس الموضوع مسألة مملة ليس فقط للقارئ بل للكاتب الذي بات يشعر بأن دوافع استمرار الانقسام كبيرة جداً، وأن ممكنات القوة تتركز لدى القوى التي تعلق مصالحها على استمراره أبرزها إسرائيل ثم جماعات المصالح والقوى ثانياً في الحالة الفلسطينية.
لكنّ للوثائق أحياناً الدور الأبرز في حسم الجدل وقطع شك التكهن بيقين المؤامرة والتخطيط، ولعلها تقنع مسؤولين لم يتوقفوا منذ أكثر من عقد ونصف العقد عن القول: «إن الانقسام يخدم إسرائيل» ولكنهم يستمرون به دون أن يعترف أي منهم بأنه يقوم بتقديم هذه الخدمة دون أن يتهم بخذلان المشروع الفلسطيني والشعب الفلسطيني.
في وثيقة بريطانية أفرج عنها تناولت الاتصالات بين لندن وواشنطن فترة ولايتي بوش وبلير مطلع القرن وبحسب محضر المباحثات بين الزعيمين الذي كتبه جون سويرز السكرتير الشخصي لرئيس الوزراء البريطاني جاء فيها أن «بوش عبر لبلير عن أن أحد مباعث القلق أن شارون يحاول اتباع سياسة فرق تسد بين الفلسطينيين عن طريق فصل فلسطينيي غزة عن فلسطينيي الضفة الغربية» وهذا ما حدث كيف ؟ وبيد من ؟ الحقيقة أمام الفلسطينيين جميعاً.
في إطار إعدادي لورقة لأحد مراكز الدراسات قبل فترة تتناول غزة والتصور الإسرائيلي كان لا بد من العودة لمرحلة الثمانينيات التي تبلور فيها مشروع فصل القطاع الذي تجسد بالانقسام وطرد السلطة من غزة بما رافقه من مأساة إنسانية ووطنية، وعثرت على عدة تصريحات لمسؤولين إسرائيليين ومفكرين نشرت في الصحافة الإسرائيلية كان قد تم توثيقها لاحقاً في كتب ولا بد من استعراضها:
- «إننا على استعداد للخروج من غزة ليس خوفاً من الإرهاب وإنما من الديموغرافيا». شمعون بيريس هآرتس 19/2/1988.
- «إن السيادة الإسرائيلية على أرض إسرائيل لن تحسم بالبندقية والقنبلة اليدوية بل ستحسم السيطرة من خلال غرف النوم». خبير الديموغرافيا أرنون سافير دافار 25/7/1987.
- «عدد اليهود والعرب سيكون متساوياً العام 2010». جرشوم شوكين - هآرتس نفس الفترة.
- «ما الذي سيأتي به العام 2010؟» عنوان رئيس في جريدة عل همشمار 20 /10 /1987.
- «نحن لا نضم المناطق ولكن الفلسطينيين هم الذين يضموننا». يديعوت أحرونوت 12/1/1988.
- «تزايد السكان العرب في ربع عام في الضفة الغربية يعادل الاستيطان اليهودي في عقدين أما بالنسبة لغزة فمعدل التزايد في شهر واحد يقوم بالمهمة». د. عبد الوهاب المسيري في كتابه «الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية» ونقلها عن مسؤولين إسرائيليين.
في الأخيرة ربما ما يختصر أزمة المشروع الإسرائيلي الذي وقف أمام محطة خطرة منتصف الثمانينيات باحثاً عن حل بدت غزة أحد أسباب تأزمه، ولكنها بدت وجهة الحل الذي تجسد لاحقاً في كارثة الفلسطينيين وقامت إسرائيل بعدها بإحداث عملية تغيير كبير في حسابات الديموغرافيا باستيراد يهود الاتحاد السوفييتي من جهة وإخراج قطاع غزة بالمقابل لتحقيق التوازن.
لا تفيد كثيراً العودة لتفاصيل الرغبة الإسرائيلية بعرض قطاع غزة على أي جهة سواء رئيس بلديتها الأشهر رشاد الشوا أو مصر أو حتى روح اتفاق أوسلو وتكريس السلطة بغزة، وحين ذهب ياسر عرفات أبعد من غزة نحو الضفة قضت عليه ثم قضت على مشروع أوسلو الذي أراد الفلسطينيون خلاله أن يحلموا بما بعد غزة، ثم أخيرا تسلمت حماس القطاع بجهل أو بسوء تقدير لكن ذلك بات واقعاً استدرجت إسرائيل الفلسطينيين أخيراً نحوه ووقعوا في حفرته.
هكذا بدت إدارة الفلسطينيين لمشروعهم، وليس مصادفة أن تكون هذه هي النتيجة التي تتراءى أمامنا من هشاشة وضعف باتا يسيطران على المشهد المأزوم ومعادلاته شديدة التعقيد ليبدو السؤال المنطقي الذي لم يكن يحتاج كل تلك الوثائق: أليس بالإمكان إنهاء الانقسام ؟ وبشكل أكثر وضوحاً متى تنتهي تلك الخدمة المقدمة لإسرائيل التي أطاحت بمشروع الفلسطينيين وأصابته إصابة في الدماغ أدت لفقدان توازنه؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد