الحكومة الاسرائيلية الحالية، وهي الأكثر فاشية في تاريخ حكومات اسرائيل، رغم أنها وليدة سياساتها العنصرية، تبدو مصممة على تصفية الحقوق الوطنية وحسم صراعها لصالح المشروع الاستعماري الصهيوني، بما يشمل عند بعض أركانها تصفية السلطة ذاتها، وهي بهذه الاستراتيجية لم تبقِ أمام قيادة السلطة سوى "الحيرة"ازاء فشل سبل مواجهة هذه الاستراتيجية، والتي تتصاعد في سياق استكمال المهمة التي طالما سعت إليها حكومات اسرائيل المتعاقبة . ولعل الاعلان عن اعتبار ما يسمى بالتنسيق الأمني "غير قائم" يأتي في هذا السياق، حيث أنه لم يكن بإمكان هذه القيادة استمرار الصمت على المجازر اليومية ضد المدنيين الفلسطينيين ومصادر رزقهم وأرضهم، والتي بلغت ذروتها في مخيم جنين يوم الجمعة الماضي "27 يناير" .كما أن قيادة السلطة، لا تريد مغادرة نهجها باستجداء الوسطاء للعودة إلى وهم المفاوضات، والتي شكلت، في ظل عناد واصرار المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة على رفض الاقرار بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وبمجمل حقوقه الوطنية ، مجرد غطاء لاستكمال مشروع التوسع الاستيطاني وتعزيز نفوذ المستوطنين الارهابيين في الخارطة الحزبية الاسرائيلية، حتى أصبحوا مقررين فيها، بل ويمسكون بمقود قيادة اسرائيل، و يتوهمون بامكانية حسم هذا الصراع الطويل والدامي مع الشعب الفلسطيني على حساب حقوقه التاريخية المشروعة.

قيادة السلطة التي تتململ على واقع عزلتها مع القطاعات الشعبية العريضة وفي مختلف الساحات، غير قادرة ولا ترغب في مراجعة استراتيجيتها بالعودة إلى الارادة الشعبية التي طالما دعت إلى تلك المراجعة، وفي مقدمتها انهاء حالة الانقسام واستعادة وحدة و دور المؤسسات الوطنية الجامعة في اطار كل من المنظمة وحكومة السلطة وأجهزتها المختلفة المدنية منها والأمنية، باعادة بناء وظيفتها الاساسية قي تعزيز قدرة الشعب الفلسطيني على الصمود و مواصلة رفضه ومقاومته للمشروع الاستعماري الصهيوني .

التقاط اللحظة التاريخية

كما في مختلف محطات الكفاح الوطني، فإن الشعب الفلسطيني طالما تقدم على قيادته في القدرة على التقاط طبيعة اللحظة التاريخية، وموجبات التصدي للاحتلال ومخططاته التصفوية، ولكن في مراحل النهوض الوطني كانت قوى الحركة الوطنية ومنظمة التحرير أيضاً قادرة، ولو متأخرة، على التقاط هذه التحولات وما يرافقها من توجهات شعبية كاسحة، لتستعيد دورها في قيادة المشروع الوطني والنضال الفلسطيني العام بأشكاله المختلفة. إلا أنه ومنذ الانقسام، ولنكن أكثر صراحة، منذ الانتفاضة الثانية، فقد غلب على دور الفصائل صراعها الخفي على قيادة الحركة الوطنية وشرعية التمثيل، وذلك على حساب وحدة الكفاح الوطني وأساليب النضال في مواجهة العدوانية العسكرية للاحتلال الاسرائيلي.

المبادرات الفردية وتخلف الحركة الوطنية

بات من الواضح، ومنذ اندلاع ما سمي "انتفاضة السكاكين"، بأن السمة الطاغية على رفض ومقاومة الاحتلال تتميز بالطابع الفردي، وهو ما أطلقت عليه المؤسسة الأمنية الاسرائيلية مصطلح "الذئاب المنفردة". وقد اجتهد مركز الأرض للابحاث والدراسات في حينه، بمحاولة البحث في خلفيات و دوافع تلك الظاهرة، وهل تحمل في طياتها محاولات استقصاء طريق جديد لبناء واستعادة دور حركة وطنية جديدة تقود النضال الوطني وتعيد بلورة استراتيجياته، سيما بعد فشل وانشغال طرفي الانقسام المهيمنين على المشهد في صراعهم على شرعية التمثيل . وقد أكدت تلك الدراسة * في حينه أن الظروف الموضوعية لبلورة مثل هذا التيار ناضجة، إلا أن الامكانيات الذاتية ما زالت في حالة مخاض. وهذا ليس غريباً، فالاتجاهات الانقسامية المهيمنة على المشهد والموارد، وبالاضافة لانشغالها عن موجبات الكفاح الوطني، فهي تبذل كل جهد ممكن لتحييد الحراكات الشعبية ومنع بلورة طريق جدي لاعادة بناء الحركة الوطنية، ورفدها بدماء جديدة سيما من الشباب والنساء.

المقاومة ..شعبية أم عسكرية ؟

بعكس الانتفاضة الكبرى التي كانت تتويجاً لمراكمة الكفاح الوطني، بما في ذلك الدور الريادي الذي لعبته الفصائل الوطنية في استنهاض وتنظيم دور القوى الشعبية، حيث شكلت ذروة الكفاح الجمعي، واستحقت تجميد العمل العسكرى لصالح الانتفاضة الشعبية، فإن المبادرات ذات الطابع الشعبي السلمي كما حدث في معركتي بوابات الاقصى الالكترونية والشيخ جراح، وكلاهما في القدس بعيداً عن تأثير السلطة والاتجاهات الانقسامية، أو أعمال المقاومة العسكرية ذات الطابع الفردي في مجملها. فإن كلا الطابعين من المقاومة يحمل في ثناياه احتجاجاً على تخلي فصائل الحركة الوطنية عن القيام بمسؤولياتها التاريخية في الدفاع عن المشروع الوطني وعن كرامة وحقوق المواطنيين الفلسطينيين.

لقد بات من الواضح أن عمليات المقاومة المسلحة الفردية تأتي في سياق التعبير عن رفض سياسات واستراتيجية المحتلين، وما يرتكبونه من عمليات قتل ومجازر يومية، وهي لا تتجاوز مفهوم رد الفعل على هذه المجازر ، كما أنها ورغم الالتفاف الشعبي الكاسح حولها، فهي تظهر مدى فشل الحركة الوطنية وعزلتها عن نبض الشعب، و مدى حاجته لبلورة استراتيجية كفاحية قادرة دوماً على تعظيم الانجازات وتقليل الخسائر سيما البشرية منها.

متطلبات النهوض الشعبي نحو انتفاضة شاملة

ليس من سبيل أمام الشعب الفلسطيني سوى رفض ومقاومة مشاريع ومخططات تصفية حقوقه، وليس من سبيل لتحقيق ذلك سوى باعادة بناء الحركة الوطنية واستراتيجيات عملها ومؤسساتها الجامعة لقيادة هذا النضال وتكامل أشكاله وتعظيم انجازاته. فما يجري في الميدان يمكن اعتباره أنوية لانتفاضة مسلحة يقوم بها شبان شجعان قرروا الخروج على الظلم والمهانة وعمليات القتل التي يتعرض لها شعبنا، وهي أيضاً خروج على حالة الصمت والانشغال في الانقسام المدمر، و ما ولّده من ضربات قاسمة للنضال الوطني. وبهذا المعني فإن قيمة هذه العمليات هي بمقدار ما تنجح فيه باستنهاض الوعي العام لاسقاط الانقسام والفئوية التي سادت في المرحلة الماضية، و تحويل هذا المجرى لانتفاضة شعبية وحالة عصيان شاملة بقيادة وطنية موحدة تشكل حاضنة سياسية تحرص على تنوع وتكامل الأدوار حتى تنجح في حسم مسألة رحيل الاحتلال. هذا هو التحدي وما يستوجبه من مهمات في مقدمتها اعادة الأمل للناس وخاصة الشباب، واستعادة الثقة الشعبية والاستجابة لمتطلبات الصمود، والعدالة الاجتماعية في الحكم والادارة .

الشباب الفلسطيني: المصير الوطني ومتطلبات التغيير

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد