تقوم «استراتيجية» بنيامين نتنياهو ، والتي يمكن استخلاصها من التجربة الملموسة من كامل فترة حُكمه وتحكُّمه بالحالة السياسية والحزبية الإسرائيلية، وإلى حدٍّ بعيد التلاعب بالحالة «الجماهيرية» الإسرائيلية، تقوم هذه الاستراتيجية على اعتقادٍ راسخ لديه، بأن أي أزمة، ومهما كانت عميقة ومستعصية، وحتى مستفحلة، إلّا أن ثمة ثغرات فيها قابلة للتحوّل إلى فرص، وثمة من الهوامش ما يكفي لاستثمارها، وإعادة توظيفها في تغيير مسار الأحداث، وفي استعادة زمام المبادرة، وفي إعادة توجيه الدفّة نحو أهدافه الخاصة أوّلاً، ونحو الأهداف العامة التي يسعى للوصول إليها.

وبهذه المناسبة يجدر التأكيد والاعتراف بأن نتنياهو استطاع على مدى سنواتٍ طوال أن «يدمج» أهدافه الخاصة، والتي هي شخصية من حيث الجوهر بالأهداف العامة بحيث لم تعد أهدافه الخاصة والشخصية إلّا حالةً ملتحمة واحدة، وتحوّل «استهدافه» في نظر قطاعات واسعة من الجمهور «اليميني» في شقّه «القومي والديني» العنصري والمتطرّف إلى استهداف للأهداف العامّة لـ «اليمين» في إسرائيل بقدر ما نتحدث هنا عن تلك القطاعات تحديداً.

يُدرك نتنياهو وهو الخبير بشؤون الأزمة الداخلية، أن هوامش اللعب والتلاعب مهما بدت وكأنها ما «زالت» متاحة وممكنة مع كل من «الصهيونية الدينية»، ومن «شاس»، وحتى مع «يهودوت هتوراة»، إلّا أنها مؤقّتة، وقد لا تغدو، لا ممكنة ولا متاحة عند درجةٍ معيّنة من تطور الأزمة الداخلية الإسرائيلية، في ظل التصعيد غير المسبوق في التحشيد الجماهيري العارم ضد حكومته من قبل «المعارضة»، كما يدرك أن «تفهُّم» و»تعقُّل» الحلفاء بات صعباً أو مستحيلاً إذا ما أراد «الانحناء» أمام موجات الاحتجاج المتلاحقة، وهو على يقينٍ تام بأن هذه الموجات ستتحوّل إلى احتجاجات «نوعية» ما تلبث أن تتحوّل إلى مرحلةٍ جديدة تلامس البعد الاقتصادي والاجتماعي، وقد تصل إلى أشكالٍ معيّنة من تعطيل الحياة العامة والعصيان المدني، بحيث تستحيل معها العودة إلى الحياة السياسية «الطبيعية» دون اهتزازات عنيفة في أُسس بناء الدولة، وفي أركان النظام السياسي كلّه.

فإذا قرّر نتنياهو الذهاب قُدماً في أهداف حزب الليكود، والتي لا تختلف جذرياً أو نوعياً مع أهداف حلفائه من بقية مُكوّنات الائتلاف الحكومي فإن المعارضة الإسرائيلية في هذه الحالة ستُطبق الخناق على «الائتلاف»، وقد لا ينجو بجلده مطلقاً، بل وقد تصل الأمور إلى «تنحيته» بقرار من المحكمة العليا، وقد تصل الأمور إلى أبعد حدود التوتر والانفجار، وقد تصل الأمور إلى درجات خطرة من العنف والاحتراب الداخلي.

وإن هو ــ نتنياهو ــ قرّر «الانحناء» أمام عواصف «المعارضة» فإن «الحلفاء» الذين قد يتفهمون سياسة الضرب [مرّة على الحافر، ومرّة على المسمار] لبعض الوقت، وحيال قضايا هنا وهناك، إلّا أنهم لن يسمحوا له مطلقاً، ولا تحت أي ظرف من الظروف بتعطيل «برنامجهم»، أو وضع العراقيل أمام تنفيذه، أو تنفيذ كل الجوهري منه، وخصوصاً في مجالات القضاء والتعليم، ودور الجيش والشرطة، وفي صلاحيات الاستيطان، وكل قضايا «التعامل» مع تفاصيل ومفاصل الملفّ الفلسطيني في الداخل الفلسطيني، وفي الأرض المحتلة.

لم يعد أمام نتنياهو والحالة هذه سوى السياسة الإسرائيلية المعروفة عن ظاهر قلب، وهي سياسة الهروب إلى الأمام، والإمعان في الفتك بالشعب الفلسطيني، والعمل على العودة السريعة إلى فاتورة الدم الفلسطيني لعلّها تخفف عنه أعباء الأزمة الخانقة، ولعلّ هذه الفاتورة بالذات هي التي تدغدغ مشاعر الحلفاء من مكوّنات «الائتلاف»، وتستهوي بعض قطاعات «المعارضة»، ولعلّها كذلك تهدئ من «رَوْع» المستوطنين، ولعلّها كذلك تستجلب «العنف والإرهاب» المنتظر والمتوقع من الجانب الفلسطيني، ما سيساعد في خلط الأوراق، وسيخفّف من ضغوط الإقليم ــ إن وُجدت ــ ومن احتجاجات وامتعاض وتذمّر «المجتمع الدولي» عند وصول الأمور، وعند تطور الأحداث بصورةٍ كبيرة إلى حدود ومصاف الأزمة على هذا الصعيد.

وفي الواقع فإنّ نتنياهو من خلال ما أَقدم عليه في جنين، ومن خلال عملية القدس التي لم تتأخّر حصل على موقفٍ أوروبي في سياق ما هو معروف ومعهود، وحصل على موقف أميركي منحاز له بالكامل، وحصل على استنكار تركي جديد في شكله ومضمونه، وحصل على «محاولات» عربية ودولية لحمل القيادة الفلسطينية على الاستنكار والتنديد بعملية القدس، وتأكد له بالملموس أن ردّة فعل «قطاع غزّة» تأتي في سياق المعهود والطبيعي و»المطلوب»، أيضاً، ولم يعد أمام «المعارضة» الإسرائيلية إلّا أن تخفّف من سرعة اندفاعها، ومن وتيرة وقوفها في وجه حكومة التطرُّف الفاشي ولو مؤقّتاً.

نسخة طبق الأصل عن كل السياسات الإسرائيلية السابقة، سياسة التوغُّل في الدم الفلسطيني كلّما وجدت إسرائيل نفسها أمام أزمة أو مأزق أو منعطف خطير.

الفاتورة التي تدفع للخروج أو محاولة الخروج من أزمات كهذه هي الدم الفلسطيني.

لم يعد لنتنياهو سوى لعبة الدم هذه، وهو يعي أن التوقُّف عنها لحظة واحدة سيعني العودة إلى حافّة الهاوية السياسية. لكن «سلاح» نتنياهو هنا هو سيف بحدّين.

إذا نتجت عن الاستخدام المفرط والأهوج لهذا السلاح حالة عارمة من مقاومة الاحتلال، وإذا ما أدّت هذه الحالة من المقاومة إلى التحوّل الكبير والسريع نحو انتفاضة وطنية شاملة، وإذا ما نتجت عن هذا التحوّل إعادة توحيد الشعب الفلسطيني والتفافه والتحامه بهذه الحالة الوطنية الجديدة بكل المعاني، بما فيها تبلور قيادات فلسطينية شابّة، صلبة ومخلصة، فإن نتنياهو يكون كمن هرب من «الدلف إلى المزراب»، ويكون كمن خسر ما هو أكبر وأبعد من أهدافه الشخصية، ومن أهداف «اليمين» العامة، وأبعد وأخطر وأكبر من أهداف الدولة الإسرائيلية ومشروعها الصهيوني كلّه.

أغلب الظنّ هنا أن نتنياهو في لحظة الضعف التي يعاني منها، وضيق الهوامش أمامه، وانسداد الآفاق لحل الأزمة الداخلية الإسرائيلية سيلعب لعبة أخرى موازية للعبة الدم الفلسطيني.

هذه اللعبة تتمثّل بالشروع في تقسيم الضفة إلى «ولايات ومقاطعات»، تحت ذريعة الأمن، ولكن بهدف تحويل هذه «المقاطعات والولايات» إلى واقع دائم لعلّه في ذلك يبدأ بمشروع خنق الشعب الفلسطيني في «منعزلات» كتب عنها، وتمّ الإعلان عن النوايا بشأنها، وباتت الآن، واليوم مدرجة على جدول الأعمال في أقرب فرصة ومناسبة.

هذه الخطة للتقطيع والعزل سيرضى عنها «اليمين» الفاشي، ولن تقف «المعارضة» فعلياً ضدها، وسيتم «تبريرها» على أنها إجراءات أمنية محضة، وأميركا جاهزة للتعاون مع نتنياهو حول جوهرها، أما العرب فسيصدرون المزيد من البيانات ضدها.

هذه هي خطة نتنياهو، وهذه هي «الحلول» الممكنة الوحيدة لديه. ولكنها الخطة الوحيدة التي لا يعرف نتنياهو أنّ فشلها حتمي وإسقاطها مُؤكَّد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد