أخيراً وبعد سنوات طويلة عجاف، عاشت غزة يوماً بهيجاً، خرج فيه مئات آلاف المواطنين للشوارع يحتفلون بالذكرى الثامنة والخمسين لانطلاقة فتح والثورة الفلسطينية المعاصرة، بعد أن سمحت لهم حماس بالتجمع والاحتفال في مقر الكتيبة، وهي عملياً أكبر ساحة بقطاع غزة، تكمن أهميتها الاستثنائية باتساع رقعتها وموقعها الذي يتوسط المدينة التي تتوسط بدورها القطاع كله، ثم واصل المواطنون احتفالاتهم حتى ما بعد منتصف الليل، ليستقبلوا كما كل شعوب الدنيا العام الجديد بأمل أن يكون جميلاً ومختلفاً عن العام الذي سبقه.
لم تخسر «حماس» جراء احتفال مئات الآلاف من الناس بانطلاقة فتح وبالعام الجديد، وهي بالمعنى الضيق والمباشر للكلمة ربحت أموالاً كثيرة، رغم أن اليوم حل قبل أن يجري صرف مرتبات الموظفين العموميين، وكما هو معروف للجميع فقد باتت حماس لا تحكم قطاع غزة بالقوة العسكرية وحسب، بل باتت تمتلكه أيضاً، فمعظم المحال التجارية، السوبرماركت، محال البقالة، الكافيهات والمطاعم، الشاليهات، والمولات هي مملوكة لأفراد حمساويين، وكان من شأن احتفال الناس بشكل واسع باليوم الأخير من العام المنصرم، بمثابة عيد جرى خلاله تحريك الاقتصاد الراكد في قطاع غزة، أما بالمعنى السياسي، فقد تأكدت حماس، أن هدف إسقاط حكمها لم يعد على أجندة السلطة وفتح، كما كانت تظن وتدعي من قبل، وأن وجودها في قطاع غزة قد استتب، ولو بشكل رسمي، ولم تعد بحاجة إلى البقاء في حالة سباق انتخابي.
مع ذلك فإن ما حدث من سماح لحماس باحتفال فتح وأنصارها في مقر الكتيبة بشكل كاسح، وتنفيذ الاحتفال بشكل سلس ودون أدنى مشكلة أو احتكاك، بل وتواصل احتفاء الناس، بما يظهر حكم حماس في غزة، على شاكلة النموذج التركي الأثير والقدوة للحركة التي لم تعد تلك الحركة المراهقة سياسياً، التي كانت أسيرة الشعارات، والتي صارت تفكر «بالبزنس»، والحياة الدنيوية للناس، يفتح بارقة أمل حقيقية على أن يكون العام 2023 عام خير على الوضع الداخلي الفلسطيني، لجهة الرد على التطرف الإسرائيلي، الذي وصل حداً غير مسبوق، تهدف به إسرائيل إلى إغلاق ملف الاحتلال بضم القدس والضفة الغربية بالكامل وتماماً، بتحقيق الوحدة الفلسطينية، بعد أن تأكد أن استمرار حماس في منح الأولوية لحلفائها الخارجيين، الإقليميين سواء كانوا محور الممانعة الداعم للجناح العسكري وخياره، أو محور الإخوان، أي إيران وسورية، أو تركيا وقطر، على الوحدة الداخلية مع فتح، هو خيار بائس لم يحقق لها التفرد بالحكم الفلسطيني، وحتى لم يحقق لها كسر الحصار عن غزة، كذلك بعد أن اقتنعت فتح أيضاً، بأن الرهان على الخيار السياسي فقط، والاعتدال السياسي، فضلاً عن أنه لم يؤدِ إلى تحقيق هدفها بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، أي برنامجها السياسي التاريخي، ولم يتوقف عند حدود إغلاق باب التفاوض، بل إنه لم يحافظ حتى على الحلفاء الإقليميين لها، الذين حتى لم يساندوها ولو ماليا، في مواجهة حرب «المقاصة» الإسرائيلية، وذلك مع توالي سقوط تلك الدول التي تعد على محور الاعتدال، في مربع التطبيع تباعا.
أي أن فتح وحماس مع مرور الوقت، بات ينطبق عليهما معا، وصف «يا وحدنا»، ومع تلك الإشارة التي أطلقها سماح حماس بإقامة احتفال فتح في ساحة الكتيبة، وعدم التطير لتلك الحشود وبقائها تحتفل طوال يوم وليل السبت الحادي والثلاثين من كانون الأول العام 2022، ومع إعلان الرئيس محمود عباس في اليوم ذاته إطلاق حوار وطني، مترافقا مع إعلان الأخ أبو ماهر حلس، مخاطبا جماهير فتح في غزة، استعداد فتح الكامل لتطبيق كل الاتفاقات الداخلية بما في ذلك إعلان الجزائر، كذلك بعد إعلان الأخ زياد النخالة أمين عام الجهاد الإسلامي استمرار حركته خلال العام الجديد في تعزيز الوحدة الميدانية التي ظهرت في نابلس «عرين الأسود» مع الفصائل حتى المختلف معها سياسيا، وإقراره بأن تلك الوحدة الميدانية قد ترافقت مع تنسيق أمني يكاد يكون معدوما، وهو فعلا كذلك، ومن المؤكد أن يصبح التنسيق الأمني في خبر كان، بعد التصويت في الأمم المتحدة لصالح القرار الفلسطيني، باستشارة المنظمة الدولية محكمة العدل في لاهاي لتعريف ماهية الاحتلال الإسرائيلي، وتهديد حكومة نتنياهو المتطرفة باتخاذ عقوبات إضافية بحق السلطة، قد تصل إلى حد البدء بعملية إسقاطها بعد أن باتت السلطة ليست فقط شوكة في حلق إسرائيل تمنعها من بلع ثمرة احتلالها، بل كذلك حائط صد أمام تحقيق أهدافها في النفوذ والتمدد الإقليمي، ورد السلطة بالتهديد بوقف التنسيق الأمني تماما ورسميا، بعد وقفه عمليا، وتنفيذ قرارات المجلس المركزي، بل وحتى إطلاق يد المقاومة بالكامل في الضفة، وحتى التفكير بعقد تحالفات إقليمية ودولية في الاتجاه الآخر.
وكما سبق لنا وقلنا في أكثر من مقال، إن التنسيق الأمني لم يعد موجوداً، والدليل على ذلك أن «عرين الأسود» وعش الدبابير، تتمنطق بالسلاح في مدن شمال الضفة الغربية، وتتمتع بحرية الحركة والتحرك، داخليا، والأهم أن بعض أفراد جماعات المقاومة هم من أفراد الأجهزة الأمنية، بما يؤكد وطنيتها الكاملة، وبعد أن تبدد التنسيق الأمني ميدانياً وعملياً، من الواضح أن السلطة ستعلن عن إلغائه وعدم العمل وحتى عدم الالتزام به، وذلك تنفيذاً لقرارات المجلس المركزي الفلسطيني، ورداً على تهديد الحكومة الإسرائيلية المتطرفة باتخاذ عقوبات إضافية بحق مسؤولي السلطة، بعد أن قادت كفاحاً دبلوماسياً ناجحاً في الأمم المتحدة بإصدار القرار الأممي الذي يطلب من محكمة العدل الدولية الاستشارة القانونية حول ماهية الاحتلال الإسرائيلي، بما يعني الدفع بالمنظمة الدولية لإنهاء الاحتلال، وقد بلغت ردة فعل إسرائيل ذروتها بتقديرنا - بوصف بنيامين نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل القرار بالحقير، والهجوم على الأمم المتحدة والتعهد طبعا بتجاهل القرار، وباعتبار داني دانون سفير إسرائيل السابق بالأمم المتحدة والقيادي بالليكود - القرار الأممي بمثابة «إرهاب فلسطيني دبلوماسي»، حمل مسؤوليته للرئيس محمود عباس.
بعد كل هذه السنين، أي بعد ثمانية عشر عاماً، على دخول حماس مربع السلطة، بمشاركتها في انتخابات المجلس التشريعي العام 2005، ومن ثم تفردها بحكم قطاع غزة، آن الأوان لمغادرة طريق الانقسام، الذي لم يلحق الضرر البالغ بالقضية الفلسطينية، ولم يعزز الاحتلال الإسرائيلي لعاصمة وأرض دولة فلسطين، ولم يوقف نمو غزة وحسب، بل إنه قدم صورة بائسة للشعب الفلسطيني، وقد آن الأوان لاقتناع الطرفين، فتح وحماس، بالشراكة بينهما ومع الآخرين، فقد بقيت فتح وحماس أكبر وأهم فصيلين فلسطينيين، لا يمكن لأحدهما أن يقود شعبنا بمفرده، وتوافقهما معاً يكمل الأدوار بينهما، ووحدتهما الميدانية تؤلم إسرائيل كثيراً، وترفع من همة المقاومة، فضلاً عن أنها تعدد أدواتها ومستوياتها وأدوارها السياسية والميدانية، وبالتأكيد فتح وحماس معاً في حال نضجهما الديمقراطي، يمكنهما أن يقدما نموذجاً ديمقراطياً فلسطينياً مقنعاً للعالم، بتداولهما السلطة، لأن أي انتخابات عامة ستعني فوز أحدهما بأغلبية ضيقة، وهكذا ففي حين يكون أحدهما في السلطة، يكون الآخر في المعارضة، هذا إن لم يتفقا على حكومة وحدة في مواجهة الاحتلال، وبذلك فإنهما مطالبان اليوم بتقديم الصورة الأخرى لثنائيتهما معاً، وذلك بالانتقال معا وسوياً من ثنائية الانقسام لثنائية تداول السلطة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية