ليس لديّ جواب نهائي وشاف وكاف لما قالته المستشارة السابقة لألمانيا أنجيلا ميركل.
مع ذلك دعونا نُخمّن أو نُحاول.
أرادت المستشارة "الداهية" أن تقول، أو هي قالت بوضوح، إن "اتفاقية مينسك" كانت عبارة عن حيلة لكي تتمكّن خلال فترة زمنية معينة أوكرانيا من تحضير نفسها، والإعداد والتجهيز للحرب التي "ستأتي"، ولكي تكون أوكرانيا في وضعٍ يمكن من خلاله تقويض روسيا، وإرغامها إما على الرضوخ المباشر، أو استنزاف قوّتها الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي إحداث ثورة داخلية على خلفيات سياسية واجتماعية لإسقاط نظامها وإدخالها في أتون حالة مستمرّة من الفوضى القاتلة.
هذا الاعتراف الخطير هو بمثابة إثبات لا يرقى إليه شك بأن ألمانيا وفرنسا قد قامتا بدور المدبّر المباشر لمؤامرة غربية كانت تقف خلفها الولايات المتحدة بكل تأكيد ضد روسيا الاتحادية، وكانت هذه المؤامرة الكبيرة هي الآلية السياسية الأخيرة ما قبل القرار الغربي بشنّ الحرب على روسيا.
باختصار، فإن هذا "الاعتراف" هو دليل قاطع على أن الأزمة، والحرب في أوكرانيا لم تُقدِم عليها الدولة الروسية كما حاول الغرب أن يصوّرها، مستخدماً أضخم آلة إعلامية في تاريخ البشرية كلها، وإنما سارعت إليها روسيا في ضوء ما ثبت لها بالدلائل القطعية، أيضاً، من أن الأمور قد أوصلت السكين إلى نحر الدولة الروسية.
أصبح الإعلام الغربي مُضحكاً بعد هذا "الاعتراف"، وأصبحت شيطنة الدولة الروسية تثير السُّخرية، ناهيكم عن شيطنة الرئيس الروسي.
الآن، أصبح واضحاً لماذا سعى الغرب جاهداً لسنواتٍ طويلة من أجل تقويض الاقتصاد الروسي بالضغط على أسعار النفط، وأصبح أكثر وضوحاً لماذا اشترت الولايات المتحدة حوالي 20% من أراضي أوكرانيا، وأصبح مكشوفاً لماذا جرى الانقلاب، وكيف جرى ذلك الانقلاب في العام 2014، وكيف تمّ تمهيد كلّ "الأرضيات" لكيّ يتم "إجبار" روسيا إما للرضوخ، أو مواجهة حرب على كل الجبهات السياسية والعسكرية والاقتصادية لتفكيك الدولة الروسية وإخضاعها.
قلنا وكتبنا، كما قال وكتب غيرنا، إن الحلقة الروسية القوية عسكرياً كانت هي الحلقة المطلوبة للكسر، لأن الولايات المتحدة دون كسر هذه الحلقة لا تستطيع ربح الحرب ضد الصين، ولأن هيمنة الولايات المتحدة العسكرية بالذات هي آلية السيطرة والتحكُّم الرئيسة بعد أن بدأت الولايات المتحدة و"الغرب"، أيضاً، يفقدون زمام المبادرة الاقتصادية بالمقارنة مع معدلات نمو الاقتصاد الصيني و"الخطر" الذي يهدّد مكانة الغرب على هذا الصعيد.
الآن، وبعد هذا الاعتراف يمكننا أن نفهم بصورةٍ أدقّ وأعمق لماذا كانت تتم عمليات القتل على الهويّة في "الدونباس"؟ ولماذا كان يتم استعداء وقمع كل من يملك شجاعة التحدث باللغة الروسية.
الآن، بتنا نعرف لماذا كان يتم إشراف الدولة الأوكرانية بصورةٍ علنية على معسكرات "المنظمات النازية"، ولماذا كانت تستخدم هؤلاء "النازيين" في ارتكاب المذابح ضد السكّان المدنيين.
الآن، نعرف تماماً كيف كان يتوسّع "حلف الناتو"، ولماذا كان يتوسّع، وكيف أنه كان جاهزاً، وكان قد أعدّ كل شيء بما في ذلك "شن" حرب استنزاف طويلة ضد القوات الروسية، وكان أكثر جاهزية لمدّ القوات الأوكرانية خلال عدة أيام فقط بالسلاح والمال وكل أسباب المواجهة!
نعم، كل ذلك أصبح واضحاً ومكشوفاً بل مفضوحاً، أيضاً.
دعونا الآن نعود إلى اعتراف المستشارة الألمانية.
من المعروف أن السيدة ميركل كانت من أكثر القيادات الأوروبية " حماس ةً" للعلاقات الاقتصادية مع الدولة الروسية، وخصوصاً في مجال إمدادات الطاقة، وكانت تراهن دائماً على استثمار الأسعار التفضيلية التي كانت "تتمتّع" بها في تعزيز اقتصادها، وخصوصاً لجهة قدراتها التنافسية مع الاقتصادات العالمية الأخرى، سواءً المنافسة لها أو الشريكة معها.
ماذا تريد أن تقول ميركل من خلال هذا الاعتراف، ومن هذه الزاوية بالذات؟
في الحقيقة، الأمر لم يعد مُحيِّراً.
الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وبمشاركة فاعلة ونشطة من ألمانيا وفرنسا لم يكن في ذهنهم روسيا الحالية، القوية والقادرة، وإنما كل ما كان في ذهنهم ــ حسب الخطط والمؤامرات ــ أن روسيا ستكون هشّة وضعيفة، وبدلاً من أن تكون إمدادات النفط والغاز الروسي إلى أوروبا سلاحاً في يدها، ستكون هذه الإمدادات سلاحاً في يد الغرب، وأغلب الظنّ هنا أن ميركل ما كانت لتخرج على العالم بهذا الاعتراف لولا أنها أيقنت الآن أن خطة الغرب قد فشلت فشلاً ذريعاً، وأن على الغرب أن يعود إلى رشده بعد هذا الفشل.
أقصد أن المستشارة ميركل أُجبرت، أو أَجبرت نفسها على هذا الاعتراف لأن الاستمرار بهذه الحرب أصبح دون جدوى بالمقارنة مع الأهداف التي كان الغرب قد أعدّها ضد روسيا، وبالمقارنة مع المهمّات التي كانت قد أوكلها للقوات الأوكرانية، وبالمقارنة مع كل أدوات القتل التي استخدمها، بما في ذلك التشكيلات "النازية" منها.
أدركت ميركل بحسّها وحدسها "الثعلبي" أن ألمانيا وفرنسا ستدفعان الثمن الأكبر لهذا الفشل، وأن استمرار الحرب بعد كل هذا الدعم الغربي لأوكرانيا، وبعد حوالي 2000 عقوبة ضد الاقتصاد الروسي قد وصل إلى النهاية "المحزنة والمخزية" بالنسبة للغرب كلّه، وأن الدخول في "مساومة" سياسية مع روسيا بات هو الحل المنطقي الوحيد القادر على تلافي الوصول إلى ما هو أبعد من فشل الحرب على روسيا.
الآن، تكشف لنا ميركل "سرّ" هذا السير المذلّ لأوروبا خلف الولايات المتحدة في حربٍ من المستحيل على الغرب أن يربحها.
"السرّ" الكامن في هذا "الهبل" الذي كانت تبدو به أوروبا هو أن أوروبا كانت وما زالت شريكاً مباشراً في هذه الحرب ضد الدولة الروسية منذ ما يزيد على اكثر من عقدين من الزمن.
كيف لأوروبا أن "تنسحب" من حربٍ كانت قد شاركت في الإعداد لها على مدى سنواتٍ طويلة، وكيف لها ألا تسير خلف الإدارة الأميركية وهي التي أشرفت بصورةٍ مباشرة على التخطيط لها، وعلى تنفيذ كل مخطّطاتها وخططها المباشرة؟
سيكون الغرب كلّه، وخصوصاً الأوروبي منه مديناً لميركل بأنها امتلكت "شجاعة" هذا الاعتراف، الذي يحمل في طيّاته إدانة لها ولألمانيا ولفرنسا، أيضاً، إذا كان هذا الاعتراف سيؤدي إلى التراجع عن هذا المسار قبل فوات الأوان.
السيدة ميركل ما كانت لتعترف بكلّ ما اعترفت به لولا أنّ الأمور قد "وصلت" إلى "خراب مالطا"، وأن الغرب "يُلاطِش" في كلّ مكان.
مرةً في كوسوفو، ومرّة في شبه الجزيرة الكورية، وأخرى في تايوان، ناهيكم طبعاً عن الخراب الذي بات يواجهه في الشرق الأوسط.
ميركل المُحنَّكة والتي هي من نمطٍ قيادي وازن وكبير بالمقارنة مع القيادات الأوروبية الهشّة والضعيفة "اعترفت" لأن سكوتها لن يجلب سوى المزيد من الخراب.
الغرب يخسر على كل الجبهات ولكن خسارته على الجبهة الثقافية من خلال انكشاف سياسات المعايير المزدوجة والعنصرية، ومن خلال الفشل الذريع في أن يبقى الغرب قدوةً أو نموذجاً، ومن خلال أكاذيبه ومخادعاته يخسر خسارةً لن يتم تعويضها، وهي مسألة تحتاج إلى معالجة، خاصة في المقالات القادمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد