في مقالتي الأسبوع الماضي أشرت إلى ان ما يجري من أحداث في قطاع غزة مع استمرار الانقسام وتجاوزه الآن لعامه الثامن، وطريقة تعاطي إسرائيل والقوى الدولية مع الواقع الذي أفرزه الانقسام والحديث عن دولة في غزة ليس إلا تعامل إنساني مع قضية سياسية بامتياز. وأشرت إلى أن الدولة التي يدور الحديث عنها، بل ويصار إلى تجسيدها دون التعبير صراحة عن ذلك، هي دولة إنسانية وتأتي ليس استجابة للاعتراف السياسي بحاجة الشعب الفلسطيني الموجود في قطاع غزة إلى تلبية حقوقه السياسية بل استجابة للشرط الإنساني المتدهور في القطاع والحاجة الإنسانية لتحسين هذا الشرط من اجل أن تصبح الحياة في القطاع مقبولة وممكنة.
وضمن أشياء كثيرة، فإن ما يجري في القطاع يشير إلى أن ثمة واقعاً جديداً يتم تمكينه وإن كان لا يُعبر عنه بطريقة مباشرة، يتم من خلاله التعبير عن احتياجات السكان الآنية التي نجمت عن الواقع القهري الذي تعرض له القطاع بعد سنوات الحصار القاسية والحروب البشعة التي شنت ضده، وهو واقع يستوجب استجابات محددة تعمل على التخفيف عن كاهل الناس دون ان تكون تعبيراً حقيقياً عن مشاعر المواطنين الوطنية أو تلبية لمطالبها السابقة لفرض هذا الواقع المرير عليهم.
إن الدولة بوصفها حلاً انسانياً لأزمة إنسانية يعني تفريغاً للدولة من مضمونها السياسي وربط الدولة بطريقة «مهينة» ليس بالحاجة لها بل بفهم المجتمع الدولي والقوى المهيمنة لاحتياجات السكان وازماتهم. بهذا تصبح ازمة قطاع غزة ليست ازمة صغيرة من سياق أوسع هو السياق الفلسطيني الذي يقول إن ثمة أرض تم نهبها وشعب تم تشريده ويجب الإقرار بحقوق هذا الشعب السياسية على وطنه حتى لو كانت على جزء صغير من وطنه، بل هي ازمة مواطنين يعانون من الحصار وعدم حرية السفر والتنقل بالتالي يجب بناء مطار وميناء لهم تحت رقابة دولة حتى يتمكنوا من السفر والحركة واستجلاب البضائع وما شابه. إلى جانب ذلك لابد من بعض المرونة على المعابر تمكنهم من الحياة الكريمة.
وفي حقيقة الأمر، فإن النقاش حول الدولة الفلسطينية في الكثير من الدوائر الاوروبية كما يمكن ملاحظة ذلك لأي دارس للسياسة الأوروبية أن يلحظ وصل في الكثير من مواضعه إلى استنتاجات شبيهة لكنها خلصت إلى الحاجة السياسية لوجود الدولة وليس إلى الشفقة الإنسانية. فأوروبا التي تعتبر الاكثر قرباً كانت الأكثر تأثراً بتبعات الصراع في الشرق الأوسط، حيث شهدت مدنها الكثير من الهجمات المتبادلة خاصة في مجال النشاطات الاستخباراتية، بل إن بعض الاعمال الاجرامية الإسرائيلية بحق قيادات فلسطينية تمت على أرضها كما ان بعض الأعمال الفدائية الفلسطينية حدثت في المدن الاوروبية ولعل أشهرها عملية ميونيخ. إضافة إلى ذلك فإن ثمة مسؤولية تاريخية لأوروبا وتحديداً قواها الكبرى عن ما حدث من نكبة ونكسة للشعب الفلسطيني.
لماذا يبدو هذا مهماً؟ لأن الاقرار السياسي لا ينبع فقط من الاعتراف بجملة الحقوق الأخرى التي ستترتب على ذلك، ولكن أيضاَ من التعاطي مع الكيان السياسي الوليد وفق هذا الأساس. وإذا كانت الدولة هي المكون الأساس في المجتمع الدولي فإن الشعب الذي يقرر مصير هذه الدولة وتعبر هي عن مصيره هو صاحب الحق في القول إذا ما كانت هذه الدولة هي التعبير عن طموحاته أم لا. واختصار الشعب الفلسطيني وتلبية طموحاته في الجزء منه الموجود في قطاع غزة يعني ضمن أشياء كثيرة نسيان القضية الأساسية للشعب الفلسطيني التي هي قضية حق عودة يجب أن يتحقق وأن يوجد حل يقضي في جوهره بالاعتراف بهذا الحق وما يترتب على هذا الاعتراف.
وهذا الفهم للدولة بوصفها حلاً إنسانياً جاء ليعبر عن التحولات في النظام الدولي ومحاولة القوى الكبرى فيه التعامل مع قضايا طرأت في العقود الأخير وهددت مقدرتها على الهيمنة عليه؛ منها ظهور المجموعات المسلحة العابرة للدولة والقادرة على المساس باستقرار بعض الدول وما يسمى الإرهاب العالمي بجانب ما يعرف بالدول الآيلة للسقوط. والاخير مصطلح تم ابتداعه بعناية ليعني تجاوز الاعتراف بدولة ما لعدم مقدرتها على السيطرة وبالتالي البحث عن بديل لها حتى إن لم يوجد على الأرض. وبالتالي ففي بعض السياقات قد يتم الاعتراف بسيادة غير موجودة وفي أخرى قد ينزع الاعتراف عن سيادة موجودة. وعليه لم يعد الواقع السياسي هو من يقرر طبيعة وكنه الدولة بل المصالح التي تري في القراءة الإنسانية تخفيفاً من تبعات السياقات السياسية. وارتبط ذلك برؤى تم تطويرها لما يعرف بالحكم الرشيد – وعلى وجوده وصحته فإن ما يراد به هو تصنيف الدول وفق مواقفها وعلاقاتها مع القوى الكبرى وليس وفق حقيقة كونها ديمقراطية أم لا- والتهديد الذي تشكله الدول التي لا تتمكن من الايفاء بحقوق مواطنيها في حياة كريمة على المجتمع الدولي أو في انها تهدد الاستقرار الدولي او تنتهك حقوق الإنسان وبالتالي تدفع للمزيد من الهجرات غير المشروعة وما إلى ذلك، وعليه تم خلق ما يعرف بالتدخل الإنساني. إنها ذات المهمة التي نُذر لها الرجل الأبيض في نشر الحضارة والحرية منذ خرج الاسكندر المقدوني فاتحاً العالم، ووفقه تم احتلال الكرة الأرضية منذ القرن السادس عشر ونهب ثروات افريقيا وآسيا، ولكن بصيغة جديدة.
الدولة كانت تاريخياً المعبر عن فهم الناس وحاجتهم للتعاقد فيما بينهم طواعية من اجل تنظيم شؤون حياتهم والانتقال من واقع هوبس حيث يأكل القوي الضعيف إلى المجتمع التعاقدي الذي يعيش فيه الجميع سواسية ووفق رغباتهم. من هنا لم تكن الدولة فقط معبرة عن حاجة الناس للبقاء والتعايش وخلقت ما يعرف بمجتمع المواطنين بل كانت ذروة التعبير المؤسساتي والكياني عن الكيان الجمعي للمواطنين، الكيان الذي يعبر عن مجموع الكيانات الفردية. وفي اللحظة التي يتم نزع هذا الإقرار حول إرادة الأفراد لصالح تحسين جودة حياتهم التي تدهورت بفعل قوة خارجية (احتلال) ولا يتم الحديث عن إزالة أسباب هذا التدهور (الاحتلال) فإن الدولة أيضاً تفقد مضمونها، وتصبح مجرد وسيلة أخرى في يد الاحتلال لاحكام سيطرته ونزعه لحقوق الشعب الذي يحتله.
وإلى جانب مليون ملاحظة اخرى ربما يمكن سوقها ضد فكرة دولة غزة، فإن ما اقترحه هنا فهم الدوافع الخفية وراء الدفع الدولي والتجاوب الذي قد تبديه بعض الدول بل وتقوم ببذل الجهد من اجل تسهيل تحقيقه. إن ما يحدث هو عودة إلى الوراء، إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية إنسانية تتطلب تدخلاً إنسانياً وهو ترجمة لمقولات نتنياهو حول الحل الاقتصادي على حساب الحقوق السياسية إلى جانب أنه تجزيء للمجزأ وتقسيم للمقسم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية