هذا مونديال العرب، فهو مونديالهم الأول وهو المونديال الذي حققوا فيهم أفضل نتائج مبارياتهم. هذا ما سيُقال عن هذا المونديال إنه مونديال العرب. المونديال الأول الذي ينظمه العرب رغم وجود أكثر من عشرين دولة عربية ورغم عراقة الكثير من الدول العربية وحضور البعض منها البارز في الكرة العالمية، ورغم الثراء والثروة التي تتمتع بها بعض الدول وقوة دوريات بعضها الآخر والنتائج القارية التي تحققها، ورغم المرات المتكررة التي تقدمت فيها أكثر من دولة من أجل ان تستضيف كأس العالم وتنظم البطولة، إلا أنه هذه هي المرة الأولى التي تحظى بها الدول العربية بهذه الفرصة من أجل ان تقوم على فعل كروي كوني بهذه الضخامة.
كان قرار «الفيفا» باستضافة قطر لتنظيم مسابقة كأس العالم مثار جدل واسع وقوبل بالكثير من النقد غير البريء من أكثر من جهة، وتم سَوق الكثير من الأسباب والمزاعم غير الصحيحة في الكثير منها من أجل الضغط على «الفيفا» لتغير قرارها، وكأن من المحرم على دولة عربية أن تقوم بنيل هذا الشرف أو أن العرب لا يستحقون ذلك. جميع المزاعم لم تصمد أمام دليل مادي واحد، وظلت تحوم في نطاق الشبهات التي تريد أن تثني «الفيفا» تحت بند الوازع الأخلاقي غير الموجود، فالضغط حتى لم يستند إلى أسباب واقعية قد يجدي نفعاً من أجل تحقيق الغاية الأساسية بسحب التنظيم من قطر. كان في هذا الضغط فرضيتان غير أخلاقيتين. تستند الاولى إلى فرضية استشراقية مبتذلة بأن الشرق غير مهيّأ لفعل أي شيء ريادي في الحضارة لأن دوره توقف بعد انهيار الحضور العربي في قيادة التاريخ مع صعود قوى إسلامية أخرى وبعد ذلك تفككها. العرب لا يصلحون إلا لتلك الحكايات القديمة المتداوَلة عنهم في كتب الأدب والفن وخرافات الأوروبيين. والفرضية الثانية بأن كل من نظم المونديال قبل ذلك كان ملفه نقياً لا تشوبه شائبة، وأن ثمة الكثير من الأخلاق في كل القرارات السابقة التي اتخذتها «الفيفا» حين حرمت قبل ذلك ملفات أكثر نضجاً وأكثر قبولاً من أن تنال فرصة تنظيم الحدث الكوني.
وهاتان الفرضيتان غير صحيحتين وتتجاوزان الحقيقة لأنهما تقصدان إخفاء تلك الحقيقة. ورغم تواصل الجهود من أجل الضغط على «الفيفا» لسحب ترشيح قطر إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل وظلت حقيقة واحدة أن العرب كانوا على موعد لتنظيم الحدث الكروي الكبير. ثمة حقائق كثيرة تناقض كل المزاعم التي ناهضت قيام قطر بتنظيم البطولة. فالعرب لا تنقصهم الإمكانيات ولا الكوادر والعقول التي تشرف على إعداد البنية التحتية اللازمة من أجل استضافة المسابقة، ولا تنقصهم الدراية الكروية، حيث إن دوريات الدول العربية باتت تحظى باهتمام  كبير وصارت تنافس بشكل ملفت في المسابقات القارية. النتيجة أن قطر قدمت نموذجاً حياً وفاعلاً ومشرّفاً لكيف يمكن للعرب أن يحققوا ذاتهم في بعض المجالات. لا يمكن الانتقاص من الأمر، فثمة مَن راهن على فشل الجهود القطرية في تنظيم المسابقة حتى اللحظة صفر. ولعل كل النقاش حول المثليين وشاراتهم وتناول الكحول وإثارة نقاش حول كل تلك القضايا الإشكالية هو من باب تسليط الضوء على قضايا من شأنها أن تثير قلق المجتمع الغربي وجمهوره حول مفهوم الحريات، طبعاً لأن هناك افتراضاً أن الحريات السليمة هي ما يتم ممارسته دون اعتبار لثقافات الشعوب. عموماً أظن أن كل ما تم إثارته حول هذا الموضوع لم يكن بريئاً، وأن هناك مَن حاول أن يعرقل كل الجهود المبذولة من أجل إثارة أزمات تعيق التنظيم السليم للمسابقة.
في النهاية تمكنت قطر من تنظيم المونديال بشكل لافت ولائق ومبهر. افتتاح المونديال مفخرة كبيرة وحظي بحضور وتغطية إعلامية على مستوى العالم. بكلمة أكثر بساطة، فإن ما تم في الافتتاح لم يكن مسبوقاً في كل المرات السابقة التي تم فيها تنظيم المسابقة. كان الافتتاح لوحة فنية متكاملة أُعجب به الجميع، وكان وسيظل مثار فخر لكل العرب لأنهم يمكن أن يقولوا بالكثير من اليقين بأن العرب نظموا واحدةً من أجمل مهرجانات المسابقة في التاريخ حتى لعقود قادمة. وبذلك بات اسم العرب في مصاف الدول المنظِمة للفعالية الدولية، ولهم أن يفتخروا بذلك.
وبغض النظر عن الدور الذي ستصل له المنتخبات العربية في المسابقة فإن الحضور العربي في الدور الأول كان لافتاً، وحقق بعض الدول بعض الإنجازات التي ربما لم تكن كافية لكنها أيضاً لم تجعل حضورها شكلياً بل فاعلاً في تقرير مصير المجموعات التي كانوا فيها. من السابق الحديث عن الأمر بصيغة الماضي، إذ إن أياماً تفصلنا عن اللحظة التي سنقرر فيها إذا ما بقيت بعض الدول العربية في المسابقة أم خرجت، لكننا أيضاً يجب أن نتذكر أن وجود العرب في المونديال بات يتحسن عاماً عن آخر وأن هذه المشاركات باتت جزءاً من الهوية الكروية العربية. عموماً مازال الحديث في الأمر مبكّراً عن مصير البطولة التي اشتدت المنافسة فيها بشكل كبير مع النتائج المتفاوتة للكثير من الدول المرشحة بالفوز بالبطولة. المؤكد أن العرب صار لهم مونديال يمكن لهم ان يفخروا به ويتذكروه لسنوات ولمرات قادمة. لا أحد يعرف إذا ما كان بإمكان العرب أن يحظوا بهذه الفرصة مرة أخرى وينظموا المسابقة، وهو الأمر الذي يجب أن يسعوا إليه، ولكن لو لم يتم ذلك فإن بإمكانهم ان يقولوا إن لديهم تجربة جيدة في ذلك، تجربة ستظل مدموغة بالمونديال العربي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد