صحافيات فلسطين خلف كواليس التغطية .. شهاداتٌ تقطرُ "دمعًا"
"لحظاتٌ فقط، كانت الفيصل بين أن أكون صحافية، وأن أكون الحدث"، تقول الصحافية فرح القيّم بصوتٍ يختنق. "لقد أصبحتُ فجأةً أخت شهيد، وصرتُ القصة" تُكمل.
لدى تقديم شهادتها خلال الجلسة الثانية لمؤتمر "الإعلاميات يتحدّثن 7"، التي عُقدت في نابلس ، أمس، كفكفت فرح دموعها، وهي تتابع شهادتها حول شقيقها الشهيد حمدي، الذي كان معارضًا دخولها مجال الصحافة خوفًا عليها، وأضافت: "طول عمرها تغطية جنازات الشهداء بتترك في قلبي أثر نفسي قاسي. بس ما تخيلت بيوم أكون أنا في قلب الجنازة. والشهيد حبيبي وأخوي".
تتابع: "عاتبة على كل من صوّر أخي بجثة محترقة"، متساءلةً بحرقة: "ما ذنب أمي إن رأت مثل هذه الصورة؟ أعتقد أن احترام خصوصية عائلات الشهداء وحالتهم النفسية أمر ضروري، وهذه رسالة لصحفيينا".
"فلسطينيات" نظّمت جلستها هذه المرة في مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، تحت عنوان: "التغطية الميدانية.. حقول ألغام لمن تجرؤ"، وقد خلت تمامًا من الكلمات الرسمية، واكتفى القائمون عليها بتنظيم كلمات الصحافيات وشهاداتهن، وسرد معاناتهن بسبب الانتهاكات الإسرائيلية.
في البداية، تحدّثت وفاء عبد الرحمن مديرة المؤسسة، ورئيسة تحرير شبكة "نوى" عن أن هذا العام شهد جملة من الانتهاكات، وأن نقابة الصحافيين قدمت ملفًا لمحكمة الجنايات الدولية حول جريمة قتل الصحافية شيرين أبو عاقلة.
وسجّلت النقابة، في مؤتمرٍ صحفي، 8000 انتهاك ضد الصحافيين والصحافيات منذ عام 2013م، طال الصحافيات 20% منها، وهي انتهاكات وثقتها مؤسسات إعلامية وحقوقية، ولكن ما لم توثقه هي المعاناة النفسية التي تتحملها الصحافيات نتيجة مخاطر التغطية، "ناهيكم عن مسؤولياتها المنزلية التي لا تستطيع التنصل منها، مهما كانت ظروفها، ومشكلاتها" تضيف.
خلال الجلسة الأولى، فضّلت الصحافية شذا حنايشة (الشاهدة على اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة) من بيروت حيث تحضّرُ هناك رسالة الماجستير، عدم الحديث عن تفاصيل جريمة الاغتيال، وقالت: "التفاصيل قاسية للغاية، لكنني في هذا السياق، أؤكد أهمية مساندة الصحافيين والصحافيات لبعضهم البعض".
وتابعت: "بعد الحادثة لجأتُ للمتابعة النفسية مع أخصائي، لكنني اكتشفتُ معاناتي من ضغوطات سابقة، نتيجة تبعات التغطية المستمرة منذ بدء عملي الصحافي -أي ما قبل عملية الاغتيال- وهذه كانت مفاجأة".
وتكمل: "نحن بعد التغطية نعود لمكاتبنا ونظن أننا نجونا، ولكن الحقيقة أن كل هذا يظل ماثلًا في عقولنا ويؤثر على أجسادنا ويظهر على هيئة أمراض وتبعات نفسية ولو بعد حين".
وتحدثت الصحافية ميس الشافعي عن قسوة هذا العام على الصحافيين والصحافيات، نتيجة الاجتياحات وعمليات الإعدام الميداني.
واستذكرت وهي ابنة البلدة القديمة وتعرف غالبية الأهالي فيها، قسوة التجربة حين استشهد مجموعة من المواطنين في حارة الياسمين، وأصيب شقيق صديقتها الصحافية رشا حرز الله إصابة خطرة، "وهو حتى اللحظة في حالة صحية صعبة".
بكت ميس، وهي تستذكر الكثير من اللحظات المؤلمة، خاصة عند قدوم والدة الشهيد عبود الصبح لتوديعه في ثلاجات الموتى، "كل هذه المشاهد لا تمرّ ببساطةٍ على أعصابنا ونفسيتنا، فالتفاصيل تظلّ تلاحقنا" تقول.
أما الصحافية ريما العملة، مراسلة تلفزيون فلسطين في نابلس، فقالت: "تعيش الصحافية كل القصص التي تغطيها، وهي تعمل في الميدان منذ بداية انتفاضة الأقصى، وقد عانت تغطية الكثير من المشاهد الصادمة والقاسية. كصحافيات نحاول نقل الحقيقة حول قضيتنا العادلة، وهذا يجعلنا نندفع أثناء التغطية".
تزيد ريما: "نتحرك بدافع وطني، هذه حقيقة، وما حدث بعد اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة أننا ازددنا عنفوانًا"، مستدركةً بسرعة: "لكن ويا للأسف، كل ما نراه يجعلنا دومًا بحاجة إلى تفريغ نفسي لنخرج كل الضغط الذي نعيشه".
في المجموعة الثانية، تحدثت الصحافية وجدان الدهيدي المذيعة في راديو مرح، عن الكثير من المواقف الصادمة التي صادفتها خلال التغطية الصحفية. منها على سبيل المثال، رجل الأمن الذي اعتادت إلقاء تحية الصباح عليه، فوجئت به ذات يوم والدًا لشهيد، ما جعلها غير قادرة على محاورته وطرح الأسئلة.
انهمرت دموع وجدان وهي تروي حدثًا آخر، حين دخلت مكانًا نفذ فيه الاحتلال جريمة إعدامٍ ميداني، فوجدت قطع اللحم البشري هناك. كان عليها الضغط على أعصابها للحصول على مداخلة من والدة مصاب، مشيرة إلى أنها تستحضر كل المواقف التي مرت بها خلال يومها قبل النوم، بينما تعود إلى عملها في اليوم الثاني بشكل عادي، دون أن تدري أن ذلك كله صار في مخزون الإحساس والمشاعر عندها.
شهادة أخرى للصحافية شادية أبو شمسة، وهي خريجةٌ تعمل في تغطية الأحداث في بلدتها بيتا، أكدت فيها أن خطورة التغطية تنبع من كونها معرضة للإصابة في كل لحظة، "ورغم التزامي بارتداء الزي الذي يميزني كصحافية، إلا أن الجنود استدرجوني مرة لكمين، وانهالوا علي بالضرب والشتم، وحاولوا سحب معلومات مني حول المتظاهرين" تعقب.
وتابعت: "غطيتُ جنازات نحو 10 شهداء من بلدتي. كلهم إما جيران، أو أقارب، أو أنساب لعائلتي كوني من نفس البلدة، وهو ما يشكّل ضغطًا نفسيًا إضافيًا بالنسبة لي". تصمت قليلًا قبل أن تكمل: "نحن بحاجة حقيقية لتدخل نفسي مستمر، نحن فعليًا نبكي خلف الكاميرات".
أما الصحافية ديانا خويرة، فقد استجمعت قواها وهي تتحدث عن اليوم الذي غطت فيه استشهاد مهدي حشاش، الذي سبق التقته حين كانت تغطي خبر استشهاد صديقه الفتى وسيم خليفة، مشيرةً إلى أنها تعاني من الانعكاسات النفسية لتغطية أخبار الفقد بشكل يومي.
وأوضحت خويرة، أنها عندما تجري مقابلات مع عائلات الشهداء، فإنها تراعي عادات وتقاليد المكان، لكن يلاحقها شعور بالذنب وهي تسأل نفسها: ماذا أسألهم؟ وماذا أقول لهم؟ فالموت أصعب ما يفجع الإنسان، كيف سنوجه لأهالي الشهداء كلامنا؟ كيف سنذكّرهم بأحبائهم، ونطلب منهم أن يستدعوا ذكرياتهم فلا يجدوا إلا الدموع جوابًا؟ كيف؟ هذا أيضًأ يوجعنا كثيرًا".
أما الصحافي عبد الله بحش، فتحدث عن ضرورة اتخاذ إجراءات الحماية والوقاية عند تغطية أحداث الاشتباكات، ليس فقط للحماية الشخصية، بل الانتباه إلى أن بعض الصور يمكن أن تَضر أشخاصًا آخرين، والتأكد من دقة الأخبار التي ننقلها.
لكن بحش بكى بشدة وهي يقول: "إن النقطة الفاصلة في التغطية، هي قدوم أم الشهيد. لحظة المعاناة هذه لا يمكن أن تمر بسهولة على أعصاب أي صحفي، قاسية، ومؤلمة، وتترك أثرًا في نفوسنا يلاحقنا على الدوام".
في الجلسة الثالثة تحدثت الصحفية مشاعل أبو الرب وهي من مدينة جنين عن عملها في منطقة كل العائلات فيها يعرفون بعضهم، بينما هي تستيقظ يوميًا تحت ضغط سؤال يا ترى من هو شهيد اليوم، مشيرة إلى ضرورة الانتباه لعادات وتقاليد كل منطقة خلال التغطية.
وتحدثت عن مخاطر التغطية رغم التزامها بإجراءات السلامة، لكن وجود القناصة يعرضهم دومًا للخطر، وهو ما يجعلهم تحت ضغط نفسي مستمر.
أما الصحفية ولاء فطاير، التي انطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالعمل على نقل صورة جميلة عن فلسطين وثقافتها، وسرعان ما انتقلت لتغطية أخبار الشهداء وانتهاكات الاحتلال، فقد كانت من خلال قصصها، تحاول الوصول إلى زوايا لا يصلها الصحافيون عادة.
تقول: "كثيرًا ما أجريت مقابلات مع جيران الأماكن التي يستهدفها الاحتلال، فهم أيضًا يتعرضون لأضرار، لكن التغطية الأصعب، هي تلك التي طلبت فيها صديقتي فرح القيّم، تصوير جنازة شقيقها حمدي".
تتابع بعد ابتلعت غصّتها: "تبعات كل ذلك تبقى عالقة في نفوسنا وأعصابنا، وهذه حقيقة علينا أن نعترف بها كصحافيات، وأن يراعيها كل من يعيش حولها، ويعرفنا أيضًا".
واختتمت الجلسة بتوصيات عدة، جمعتها "فلسطينيات" للعمل عليها، أولها التواصل مع الصحفيات خارج المدن المركز، وتقديم رعاية نفسية وذاتية للصحفيات في مواقعهن، ونشر الشهادات بلغات متعددة لإيصالها لأوسع جمهور.