هذه المدينة دائمة الحضور في المشهد الكوني المدجج بالأحداث الكبار، رغم صغر مساحتها فهي لا تتجاوز مساحة كف اليد بالنسبة لدول لا يأتي ذكرها في العام مرة واحدة، وأهمية غزة ليست في 360 كم يُحشر على أرضها قرابة مليوني إنسان، فهي لا تكفيهم قبور، غزة لا تكتسي أهمية لأنها الممر الإجباري بين قارتي آسيا وأفريقيا أو مصر والشام، بل لأنها تعبير مكثف عن فلسطين، ومنطقة الرفض المطلق لاكتمال حلم إسرائيل باللون الأزرق.
غزة خطيرة لأنها احتواء مزدوج لقضية فلسطين، خطيرة لأنها قد تنكمش على ذاتها كقلعة عسكرية، في ظل "السيولة الجغرافية" في المنطقة، والتي بدأت من فلسطين، فكل ما يجري عربيا من حركة جغرافية متحركة، بدأ من سلوك إسرائيل الاستيطاني لأنها "دولة بلا حدود" تسعى أن يتشابه معها الجميع، فجاءت كل الكيانات الجديدة والقادمة بدون حدود وبقيت غزة بحدود الطبيعة والسياسة كمنفى فلسطيني معد للاحتضار الوطني، وتم ترجمة ذلك بإبعاد الأسرى المحررين والمناضلين إلى غزة من نابلس وجنين و رام الله ، وإن حدثت انتفاضة في الضفة كما يأمل البعض، سيصبح معبر بيت حانون بوابة يومية للمناضلين المطرودين من الضفة، وهذه قسوة العدو لكن الخطير القبول بهذا الدور.
العقل الإسرائيلي الذي يترجم غزة لغةً بأنها الجحيم، أدرك أن البقاء فيها مستحيل لأسباب متعددة، فالموت أصبح يحاصر مستوطناته فيها، والجغرافية الضيقة لا تسمح له بالتمدد، وماؤها أصبح بعيد المنال، فقرر أن يخرج منها ليحكمها عن بعد بالحصار والقنابل المحمولة جوا، وفي عقله السياسي مخطط أن تصبح غزة شبيهه له ككيان وظيفي يؤدي أدوارا سلبية لصالح غيره، فالعقل التلمودي يخشى منطقتين بحكم التصور الديني المسبق وهما غزة ولبنان منذ السبي البابلي.
إذن حصر فلسطين في غزة كخطة جنونية تمكنت الهزائم العربية والانقسام الفلسطيني من جعلها ممكنة كواقع يجب التعايش معه، قابلها ارتباك فلسطيني بين من يخشى أن ي فتح عينيه على فشل حل الدولتين بقرار استيطاني سيطر على أكثر من 60٪ من الضفة الغربية، وجعل من المستوطنات حصارا جغرافيا يكبل المدن الفلسطينية، ولا زال يلتهم الأرض دون دفاع سوى التمسك بمظلة قرارات دولية غير فاعلة منذ القرن الماضي، ورهان على قرار دولي بإنهاء الصداع الفلسطيني، وأصحاب هذه الرأي لا يحبذون رؤية إسرائيل وهي تفاوض على دمشق وبغداد وسيناء وجنوب لبنان وطهران، متناسين "ألف باء السياسة الإسرائيلية" بأنها دولة بدون تعريف حدودي، رغم الجدار الذي جاء للتخلص من قرب الفلسطينيين لصالح التمدد خارج الجغرافيا التقليدية، فقد أصبح من الواضح أن إسرائيل حاضرة في التقسيم الجديد للمنطقة لكنها تنتظر اللحظة المناسبة.
وبالعودة لغزة يرى آخرون من المتعبين أن الأرض الممكنة حاليا هي غزة، دون أن يدور في بالهم أن غزة غير قابلة للحياة بذاتها دون باقي فلسطين، وأن قدرها ليس الدفاع عن ذاتها، لأنه خيار انتحاري جُرب خلال ثلاثة حروب مدمرة، وهذا الفريق انغمس في فقه الواقع وغرق في تيه التجربة وهو يرى النكسات السياسية العربية، فقرر أن يهرب للأمام بعد أن أغلقت كل الأبواب في وجهه، ولم يبق له إلا إسرائيل ليفاوض على سيفه ورغبة الاحتلال في التخلص من ضجيج ومعاناة غزة، لصالح فكرة تأجيل الصراع للمستقبل واحتمالية تغير موازين القوى، والله أعلم.
رغم ذلك أنا على ثقة أن حصر فلسطين في غزة مستحيل، حتى وإن أراد "البعض منا" بمفهوم العجز أو حتى التآمر. لأن غزة قابلة للاشتعال دائما كمحرك للكفاح الفلسطيني بالمجمل، ومهمة الدفاع عن ذاتها ودورها كقلعة لوطن مسلوب، ورغم الإنهاك المتواصل لها والتضييق عليها، يجبرها السياق الجغرافي المتصل بالعالم العربي، بعد إحكام إسرائيل سيطرتها على الأغوار مع الأردن، والسياق التاريخي المرتبط بأدوار اجبارية كون غزة حاضنة للنضال الفلسطيني وأن انشغلت بنفسها تحت قسوة الضغوط فهي لن تعيش بقدراتها الذاتية، والبحر لن يكون لها وحدها.
الحقيقة أن المفقود فلسطين ليس الأرض أو وحدة الجغرافيا، وطالما لم يوجد كيان فلسطيني يوقع على قرار التنازل تحت ضغط المعادلات القاسية، تبقى الأرض فلسطينية، ولنا شاهدين رحيل مستوطنات غزة، وبقاء أهلنا في الداخل المحتل عام 48. المفقود هو وحدة الموقف والرؤية، وحدة المصير، وحدة الشعب والغاية والأهداف والبرنامج لمواجهة معركة شرسة وكيد متين، وحدة تدرك أن بقاء الفلسطيني على أرضه حتى بدون كيان سياسي أهم من وهم سلطة لا تحقق شروط صمود الفلسطينيين على أرضهم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية