لا تتوقف التقارير التي تصدر عن مؤسسات دولية ذات طابع حقوقي أو سياسي، وتتضمن اتهامات واضحة لإسرائيل بارتكابها جرائم حرب بحق الفلسطينيين، فعدا التقرير الأخير الذي صدر يوم الاثنين الماضي، ثمة تقارير سنوية عن الأراضي المحتلة، ترصدها مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ولكنها توضع في الأدراج، لا لأن دول الاتحاد لا تزال تلتزم بمستوى متقدم من الدعم والعلاقة بإسرائيل وإنما، أيضاً، حتى لا تفسد في حال نشرها، المحاولات المتكررة من أجل استئناف المفاوضات والعملية السلمية.
وفضلاً عن كل ذلك، لا يزال المجتمع الدولي يتذكر وقائع تقرير لجنة القاضي غولدستون بشأن جرائم حرب ارتكبتها اسرائيل خلال عدوانها الواسع على قطاع غزة نهاية العام 2008، بعض هذه التقارير والشهادات صدر عن منظمة حقوقية إسرائيلية، وبعضها صدر عن مؤسسة هيومان رايتس ووتش الأميركية التي طالبت مؤخراً الأمين العام للأمم المتحدة بإدراج إسرائيل وحركة حماس في قائمة العار.
وسواء تواطأ الأمين العام للأمم المتحدة، أو غيره ورفض تفعيل الآليات المناسبة، لملاحقة إسرائيل، أو اكتفى بإعلانات مقتضبة بشأن التقارير التي تصدر عن مؤسسات الأمم المتحدة، فإن الثابت هو أن إسرائيل قد حجزت لها مكاناً حصرياً ومتميزاً وربما منفرداً في قائمة العار.
تعتقد الدوائر الإسرائيلية أن بإمكانها مواصلة التعامل السلبي مع لجان التحقيق الدولية، وان بإمكانها إدارة الظهر لكل ما يصدر عن الامم المتحدة ومؤسساتها، لكنها لا تنتبه إلى أن الاهم من أن تتخذ الامم المتحدة قرارات بشأن تلك التقارير هو ان الرأي العام الدولي، يتحول تدريجيا نحو اعتبار اسرائيل دولة عنصرية، تمارس ارهاب الدولة.
تظن الدوائر الإسرائيلية أن التحقيقات الداخلية التي تقوم بها لجان تحقيق بقرارات من المستوى السياسي، وهي غالباً تبرئ نفسها من أية مسؤولية عن ارتكاب جرائم حرب، سيكون كافياً لحمايتها من ملاحقة العدالة الدولية.
يتساءل البعض عن دوافع ترحيب المؤسسات والفصائل الفلسطينية بما في ذلك حركة حماس، بما يصدر من هذه التقارير، ذلك أن هذه التقارير تشتمل على إدانات للمقاومة بارتكاب جرائم حرب، لكن حساب الأرباح والخسائر يفسر على نحو واضح تلك الدوافع. في الأساس ما كانت حركة حماس وفصائل المقاومة لتوافق على انضمام فلسطين لمعاهدة روما، والاتفاقيات الدولية الأخرى، لو أنها، اكتفت بقراءة النتائج، من زاوية ما يترتب على الفلسطينيين من أثمان تولد بالتأكيد شعوراً بالغبن واختلال ميزان العدل.
في ميزان الأرباح والخسائر لا يمكن مقارنة ما يسجل من إدانات أو اتهامات على الجانب الفلسطيني بما يسجل على دولة الاحتلال لا كمّاً ولا نوعاً. حين يأتي موعد الحساب الفعلي، سيكون على إسرائيل أن تواجه سيلاً لا يتوقف من التهم بجرائم حرب ارتكبتها ضد الفلسطينيين من مجازر، وقتل للمدنيين، واستخدام أسلحة محرمة دولياً، وتدمير بيوت ومنشآت ومزارع، ومن استيطان وتهويد يؤدي إلى تغيير معالم القدس والأراضي المحتلة المحمية بقرارات دولية. هنا قد تجرى محاكمة أشخاص فلسطينيين من حركات المقاومة، كانوا مستعدين كل الوقت للشهادة، واللحاق بالقائمة الطويلة من القيادات والكوادر التي قامت إسرائيل باغتيالها، لكن الأمر بالنسبة لإسرائيل يختلف حيث إن من تتم محاكمته هو دولة إسرائيل بالعموم، وقائمة طويلة من قياداتها العسكرية والسياسية على وجه الخصوص.
بعض الإسرائيليين أخذوا يتحسسون الخطر الذي تتقدم نحوه إسرائيل بسبب عنجهية وتطرف قياداتها السياسية، والكل يشكو من العزلة المتزايدة التي تندفع إليها إسرائيل حتى بات من الصعب على اقرب حلفائها الدفاع عنها، لكنهم يواصلون الاعتماد على لغة العنهجية والاستهتار بالآخرين.
لست هنا لكي أصرف بعض الغضب الشخصي مما تقوم به إسرائيل التي تتنكر لكل الحقوق الفلسطينية، وتصر على السيطرة على الشعب الفلسطيني وتطمع في مصادرة أرضه وأحلامه، ولكنني ألفت نظر القوى الفلسطينية المنقسمة على نفسها، والتي تعظم برامجها ورؤاها الفصائلية، وأشكال نضالها، إلى ضرورة الإمعان في قراءة السياسات التي أوصلت حال إسرائيل إلى ما هي عليه. علينا أن لا نستهين بتكتيكات نزع الذرائع، وتقديم الجلاد والضحية كل على صورته الحقيقية بعيداً عن العنجهية والادعاءات فارغة المضمون.
رحم الله الدكتور حيدر عبد الشافي، هذا القائد الوطني الكبير الذي ظل يردد حتى وفاته، ان الشعب الفلسطيني ضحية، وانه في موقع الدفاع عن النفس والحقوق، وبالتالي على قواه السياسية أن تتواضع في خطابها ومخاطبتها للعالم الذي عليه أن يميز بين صاحب الحق، والمحتل المعتدي على الحق. فقط نحتاج إلى أن يتفهم كل طرف الطرف الآخر، وأن يتكامل الجهد الفلسطيني، حتى لو بقي حال الانقسام إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. لقد اقتربت الأمور من أن تنجح السياسية الفلسطينية في تدويل الملف بالكامل، وفي أن تحصد دولة فلسطين المزيد من الاعترافات الدولية والدعم والتضامن.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية