يتجه العالم نحو الاصطفاف بشكل حاد في الصراع الروسي الأوكراني، ويبدو التوتر في مشهد العلاقات الدولية أكبر وأكثر شدة من ذي قبل.
ليس المؤكد أننا ذاهبون لحرب عالمية جديدة لكن أيضاً حين بدأت حادثة إطلاق النار في فيينا لم يكن أحد يعرف أن ثمة حرباً كونية ستندلع.
العالم بدأ يأخذ شكل فريقي كرة قدم. يذكرنا هذا أكثر بالحرب الباردة التي طالت بشكل كبير ولم يكن أحد أيضاً يعرف أنها ستطول إلى هذا الحد.
اصطفاف العالم إلى فريقين يقول إن شكلاً من التوتر قادم وسيستمر لفترة طويلة أكثر من المتوقع. إنه الاصطفاف الثنائي الذي يقترح أن الفريقين على ضفتي النهر يتقاتلان.
الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ومعها بريطانيا ودول شمال أوروبا الغربية التي هي خارج الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الراغبة في اللحاق بعضوية بروكسل ومعها حلفاء واشنطن الكبار من كندا وأستراليا وغيرهما في كفة، وروسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابقة وبعض الحلفاء في آسيا تحديداً إيران التي توجه لها الاتهامات بالمشاركة في حرب المسيرات (الزنانات بلغتنا الفلسطينية الدارجة).  
هذا بات واضحاً في اجتماع أي مؤسسة دولية حيث انسحاب الطرفين حين يتحدث الفريق الآخر والتهم المتبادلة. حتى الآن لم يتفجر الوضع لكن سيأتي يوم يصبح فيه متعذراً عقد مثل هذه الاجتماعات وبالتالي وضع علامة استفهام على مستقبل التشكيل الدولي ومؤسساته.
تقول النتائج التي قد تترتب على هذا الصراع إنه، أي الصراع، سيستمر لفترات طويلة بعد ذلك. ثمة سيناريوهات محتملة. أولها السيناريو الصفري نفسه بمعني فوز أحد الطرفين على الطرف الآخر ما سيعني سعي الفائز للانتقام من حلفاء الطرف الآخر.
لن يكون انتقاماً فحسب بل تدفيع أثمان باهظة قد يكون دفعها مدعاة وسبباً لتوتر أكبر. قد تنجح روسيا في حسم المعركة بطريقة أو بأخرى من خلال شل مقدرة كييف على الحكم وتحييد السلطة المركزية في البلاد وتعميق جراحها بشكل كبير. وهذا وارد إذ إن موسكو لا تسعى لحسم سريع لأنها تريد أن تتأكد أن ثمة إعادة ترتيب للعلاقة مع جارتها العجوز، أوروبا، بعد أن تخمد نيران المدافع والطائرات.
والمؤكد أن الغرب يدرك ذلك ويعرف أنه من الصعب هزيمة روسيا لأن ثمة قوة نارية مهولة هناك يمكن لها أن تجرف القارة إلى الدمار، لذلك فإن الاستمرار في دعم كييف ليس إلا من باب رفع العتب ومواصلة محاولة الإضرار بروسيا.
مرة أخرى قد لا تبدو روسيا في عجلة من أمرها لحسم الحرب لأن الشتاء قادم وتريد أن تدفع أوروبا ثمن مواقفها دفعاً مؤلماً. لذلك فإن التصعيد التدريجي الذي سيصل الأعياد في ذروته يبدو منهكاً أكثر لأوكرانيا ولحلفائها وهو يعطي موسكو فرصة التأثير أكثر على مجريات ما بعد الحرب.
من جهة أخرى فإن احتمال أن تتمكن أوكرانيا من الصمود حتى النهاية يبدو مستحيلاً وإن كان وارداً.
كييف تعتمد أكثر على استمرار الدعم الأوروبي والأميركي لها في مجال التسليح لأن هذا سيمكنها من مواصلة القتال وإن كان هذا يعني استنزافاً واضحاً لقدراتها ولمقدرة الناس على مواصلة البقاء في ظل القصف وتدمير البنى التحتية في البلاد. ولكن من المؤكد أن مجرد عدم انهيار البلاد ومواصلة القتال يعد نوعاً من الانتصار من جهة أخرى، إذ إن البقاء يعني أن الدفع باتجاه انزلاق البلاد نحو النهاية لم يتحقق.
طبعاً هذا ليس صحيحا تماماً ولكن وفق استراتيجية مختلفة قد يبدو مألوفاً ومقبولاً بالنسبة لكييف. هذا يعني أن مواصلة الصمود هو إطالة لزمن الحرب وبالتالي إعطاء فرصة اكبر للحلفاء والأصدقاء للتأثير أكثر على نتائج الحرب.
الجميع يراهن على الوقت. والمؤكد أن الوقت لن يكون في صالح الجميع، فقط سيكون في صالح طرف واحد. يصعب الحكم الآن على النتائج، لكن بالنسبة لكييف فإنه ثمة معجزة لا بد أن تحدث حتى توقف موسكو حربها. وهذه المعجزة لا بد أن تكون موسكو مدفوعة إليها ومكرهة. بمعنى أنها ستحدث بسبب ضغط دولي يقود إلى تراجع موسكو عن مطالبها. ليس ثمة ما يمكن تخيله في ذلك لكنه المخرج الوحيد الذي سيشكل انتصاراً لكييف.
أما أن توقف موسكو الحرب من طرف واحد فإن هذا سيبدو انتصاراً لموسكو لأنها من يقرر إيقاع النتيجة.
أيضاً هذا ستكون له توابعه بعد ذلك. فيما يبقى الاحتمال الثالث الذي قد يترتب على عدم حسم الأمر ومواصلة الصراع دون حسمه.
هذا سيعني أن نوعاً من الحرب الباردة سيشتعل ولكن بشراسة أكثر من الحرب الباردة الأولى وسيصبح عندنا حرب باردة أولى وحرب باردة ثانية على وزن الحربين الكونيتين السابقتين. قد يبدو هذا غير مألوف لكن المألوف ليس إلا شيئاً قد حدث.
في هذا السياق فإن ما يجري في اللقاءات الدولية وفي المؤتمرات وفي التوافقات داخل المؤسسات الدولية ليس إلا جزءاً من هذه الحرب الباردة التي بدأت شرارتها الكهربائية تضيء.
تتذكرون المدفأة الكهربائية التي تبدو مثل مدفأة حب مشتعلة. هكذا ستكون الحرب الجديدة. مواصلة الصراع ومواصلة التوتر ومواصلة الشعور بحالة الصراع لكن دون وجود صراع ميداني. هنا يبدو الاصطفاف جزءاً من صراع قادم.
مرة أخرى أوروبا الغربية في كفة ومحور روسي في كفة ثانية. هل يعني هذا أن أوروبا الشرقية ووسط أوروبا خارج هذا الصراع ليس تحديداً بل إن ثمة أوقاتاً سيكون لزاماً على الجميع أن يأخذ موقفاً، ولكن لن يكون بمقدورنا الحديث عن أوروبا الشرقية في كفة وأوروبا الغربية في كفة.
طبيعة التحالفات والاستقطابات ستختلف وفق معطيات الصراع الجديد، وسيكون هناك شرق جديد وغرب جديد. ستختلف المصطلحات ولكن النتيجة واحدة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد