من السذاجة بمكان الاعتقاد أن لهفة إسرائيل لتوقيع اتفاق تهدئة طويل الأمد مع غزة مرتبط فقط بأسباب أمنية أي خوف إسرائيل من حرب جديدة ومن تهديد للعمق الإسرائيلي، فالأوساط الاستخباراتية الإسرائيلية لديها قناعة أن حركة « حماس » والحركات الفلسطينية المسلحة في غزة لم تنجح حتى الآن في ترميم قواتها واستعادة مخزون الصواريخ التي كانت لديها قبل الحرب الأخيرة، وإن كانت تحاول وتسعى بكل طاقتها للوصول إلى ذلك، بل وان تمكنت من تجاوز ما كان لديها كماً ونوعاً. وهي تواجه صعوبات في توفير ما يلزم من السلاح بسبب إغلاق الجزء الأكبر من الأنفاق ووضع الطوارئ الأمني في سيناء بسبب الحرب التي تشنها قوات الأمن المصرية ضد الجماعات الإرهابية المسلحة في شبه الجزيرة، والأمر يتعدى الأمن إلى مشروع سياسي آني وبعيد المدى.
إسرائيل أدخلت دولاً وأطرافا دولية عديدة في مساعي التوصل إلى اتفاق الهدنة طويلة الأمد مع «حماس» ونقلت رسائل بين الطرفين بهذا الخصوص، وهناك اعتراف واضح من «حماس» ليس فقط بالدردشة حول هذا الموضوع بل بتداول مسودات اتفاق. وآخر ما قيل بهذا الشأن ورد على لسان القيادي في حركة «حماس» أسامة حمدان مسؤول ملف العلاقات الدولية في الحركة الذي كشف أن «حماس» تلقت أفكاراً مكتوبة حول التهدئة، وان قيادة الحركة تدرس هذه الأفكار وبصدد الرد عليها اليوم- حسب صحيفة «فلسطين» التي تصدر في غزة وتتبع لحركة «حماس»-، وقد أضافت الصحيفة أن الذي نقل هذه الأفكار هو طوني بلير مبعوث الرباعية السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط. إذاً نحن أمام معلومات مؤكدة وليست تسريبات أو أقاويل يمكن الطعن فيها كما حصل في الماضي. وكان واضحاً منذ مدة أن إسرائيل تسعى للاتفاق مع «حماس» بسبب وجود مصالح مشتركة كما قال قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال سامي ترجمان. وهذا طبيعي باعتبار أن إسرائيل تريد هدوءاً في الجبهة الجنوبية و»حماس» تريد رفع الحصار وحل مشكلات غزة حتى توطد حكمها هناك وتتمكن من جباية الأموال وتعزيز وارداتها بعد أن انخفضت بسبب اغلاق غالبية الأنفاق مع مصر.
إلا أن الموضوع السياسي المباشر لهذه التهدئة هو محاولة إسرائيل التصدي لسعي الفلسطينيين لمحاكمة الاحتلال على جرائمه في غزة وخاصة في الحرب الأخيرة ، فالإسراع في فتح القطاع وإعادة الإعمار وتحسين شروط المعيشة لمواطني القطاع يخفف من وطأة الانتقادات الدولية ويسهل على إسرائيل إبعاد شبح الحصار والعقوبات إلى فترات أبعد، بحجة وجود اتفاق مع «حماس» وأن الطرفين يتعاونان من أجل حل أزمات القطاع. ولا يستبعد أن تطرح إسرائيل في إطار الاتفاق موضوع التحقيقات الدولية في حرب غزة التي استبقتها إسرائيل بجلب لجنة ضباط دولية تعلن أن الجيش الإسرائيلي تصرف بصورة جيدة وأن «حماس» ارتكبت جرائم حرب.
وعلى كل حال الحكومة الإسرائيلية تعيش ضغطاً غير مسبوق وتخوفات من مقاطعة وعزلة دولية بدأت تأخذ منحى أكثر جدية من أي وقت مضى، وتحاول عبر إيجاد طرف فلسطيني للتفاوض للتخفيف من هذا الضغط، وقد جربت محاولة جر القيادة لمفاوضات حول الكتل الاستيطانية ولم تفلح، فما بالنا إن توصلت لاتفاق معين لوقف إطلاق نار طويل الأمد.
أما الهدف البعيد فهو طبعاً الإبقاء على الانقسام وإفشال مساعي الشعب الفلسطيني للحصول على دولة مستقلة موحدة في مختلف مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية. وللأسف هذا على ما يبدو يذهب باتجاه التكريس كأمر واقع من الصعب إنكاره أو تغييره، فمن الواضح أن ما دفع «حماس» للموافقة على اتفاق الشاطئ الأخير هو شعورها بأزمة قوية بعد اغلاق مصر في وجهها، وبمجرد أن ارتاحت من تحمل المسؤولية بعد تشكل حكومة التوافق الوطني عادت للتشدد في موقفها من الوحدة والمصالحة، كما أن السلطة لم تقم بما يكفي في هذا الجانب للضغط والترغيب لجعل إنهاء الانقسام أمراً واقعاً. والآن الموضوع يصبح أكثر صعوبة وخطورة في حال الاتفاق مع إسرائيل وبالذات إذا تم رفع الحصار وإنشاء الميناء البحري فما الذي سيجعل «حماس» تذهب نحو مصالحة حقيقية؟!
وربما تطورات المواقف الإقليمية تزيد الطين بلة، ففتح علاقات السعودية مع «حماس» وتقديم معونة مالية لها سيشجعها بدون شك على المضي في طريق استبعاد الوحدة خاصة وأن الموقف السعودي يذهب كذلك باتجاه الضغط على مصر في علاقاتها مع «حماس» وفي ملف حركة « الإخوان المسلمين» في مصر، وليس غريباً أن نسمع ونقرأ عن اتفاق مصري مع «حماس» حول ضبط الحدود وأشياء أخرى. فنحن في واقع إقليمي متغير و «حماس» تريد الاستفادة القصوى من ذلك لجهة تثبيت مشروعها الخاص في غزة الإمارة أو الدويلة.
الشيء الغائب في العلاقة الفلسطينية الداخلية وفي العلاقة مع الإقليم هو المشروع الوطني الذي على ما يبدو لم يعد يحتل أولوية حتى لو من باب المزايدات والشعارات التي كان الكثيرون يتغنون بها كفكرة المقاومة والجهاد وفلسطين الكاملة التي هي أرض وقف إسلامي ورفض فكرة التفاوض مع العدو، بل واعتبارها خيانة وتنازلا خطيرا، ومعارضة اتفاق «أوسلو» الخياني والتفريطي...إلخ من العبارات التي امتلأت بها وسائل الإعلام وضجت بها المنابر والفتاوى، كل ذلك أضحى زوبعة في فنجان تلاشى على مذبح المصالح الخاصة، ويبدو أننا سنشهد الكثير من المفاجآت في المواقف السياسية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية