حسب معظم استطلاعات الرأي التي أجرتها، وتتابع إجراءها المراكز المختصة في إسرائيل، فإن التوقعات تكاد تُجمع على أن نسبة مشاركة الفلسطينيين من شعبنا في الداخل ستكون هي الأدنى في كل الانتخابات، وقد لا تتجاوز هذه النسبة حاجز الـ(أربعين بالمئة)، إن لم تكن أقلّ من ذلك.
وما لم تحدث "معجزة" فإن هذه النسبة لن تتحسّن بأي معدلات فارقة، وستبقى تراوح ــ على ما يبدو ــ حول الأرقام والمعطيات التي تبرزها تلك المراكز.
القوى السياسية الفلسطينية باتت على نفس هذه "القناعة"، ولم تعد تأمل أو تراهن على ارتفاعات جدية، بدليل أن هذه القوى باتت طموحاتها القصوى هي "ضمان" تجاوز نسبة الحسم باعتبار أن هذا "الهدف" هو الممكن الوحيد، وباتت المراهنة على قائمة مشتركة ضرباً من الخيال، وباتت المراهنة على وجود عدة قوائم أقلها ثلاث، وربما أربع، أيضاً، وكأنها من "طبيعة الأشياء".
أصبح الواقع، الآن، يُنذر بأن أقصى ما يمكن التوصل إليه هو محاولة التوافق على قضايا بعينها بين هذه القوائم علّها تتحول في المستقبل إلى نوعٍ من "برنامج الحدّ الأدنى" يجري، أو سيجري العمل على "التنسيق" بشأنها في قادم الأيام، سواء قبل الانتخابات أو بعدها.
كلّنا بتنا نعرف جيداً الأسباب، أو معظمها التي أدت إلى هذه النتيجة، وكلنا ندرك أن ثمة خيبة أمل كبيرة من أداء القوى السياسية في الداخل، وأصبحنا، الآن، أمام معطيات ملموسة حول "سوء" هذا الأداء حيال عشرات الملفات الحارقة، وحول وحدة أو تشرذم هذه القوى، أو حول "الأجندات" الفئوية، وحول "التمترس" خلف المصالح الخاصة والحزبية، وحول الهروب والتهرب من مجابهة استحقاقات هذه الملفات بالشكل الذي يحقق هذه الاستحقاقات تحت حُجج وذرائع مختلفة لم تعد مقنعة لقطاعات متزايدة من جماهير الداخل، بل ولم تعد مقنعة لأعداد متزايدة من كادر وقواعد هذه الأحزاب نفسها.
وازدادت قناعات الناس في السنوات القليلة الأخيرة أن الأداء السياسي لهذه القوى قد فشل في مجابهة الملفات الساخنة التالية:
أولاً، الملف الذي يتعلق بكيفية الربط الخلّاق بين القضايا الوطنية، أي القومية في الواقع الفلسطيني في الداخل وبين القضايا الاجتماعية والمتطلبات المعيشية، وتوزع القوى السياسية بين من يركز على القضايا القومية على حساب القضايا الاجتماعية والمعيشية، وإدارة الظهر بالكامل للقضايا القومية وتركز عمله وجلّ اهتمامه على القضايا الاجتماعية، بما في ذلك التنصّل من الانتماء الوطني والمتطلبات القومية لهذا الانتماء.
صحيح أن هذا الواقع فيه كثير من التعميم الذي يصل إلى درجة التعمية، وفيه الكثير من نواحي الإجحاف بحق هذا الحزب أو ذاك، إلّا أن من الواجب، ومن الإنصاف، أيضاً، أهمية رؤية أن الأمور عندما تتعلق بقضية التصويت من عدمه فإنها تستند أساساً إلى "الانطباع" الذي يصل إليه الناخب أو الناخبة، وليس الخارطة التفصيلية، والحيثيات الملموسة، والمعطيات الدقيقة لهذا الملف.
ثانياً، الفشل في التوافق على الأهداف المباشرة لأحزاب الجماهير العربية الفلسطينية من خوض المعارك البرلمانية التي تتعلق بالموقف من حكومات النظام الصهيوني، ومن تكتيكات اللعبة السياسية في تشكيل الائتلافات الخاصة بهذا التشكيل، ومن "المشاركة" الضمنية أو المباشرة، في إنجاح أو إفشال هذا الائتلاف أو ذاك، أو في تأييد هذا التحالف أو ذاك.
وقد ثبت بالملموس وبالتجربة الحسّية أنه لا توجد حكومة صهيونية جيدة وأخرى سيئة، أو حكومة سيئة وأخرى أكثر أو أقل سوءا، بقدر ما توجد حكومة قادرة على الفتك أكثر أو أقل من الأخرى، أو حكومة تؤجّل هذا الفتك إلى مراحل لاحقة، في حين أن حكومة أخرى لا تبالي بمثل هذا التأجيل. حكومة تعد الخطط، وتسنّ القوانين لنفي وجودنا الوطني في الداخل من أساسه، وحكومة لا ترى أن الأوان الآن، أو أن الأولوية الآن، وعلى المدى المباشر والفوري لهذه المسألة بالذات.
باختصار، فإن جماهير الداخل لم تعد تفهم ماذا تريد بالضبط القوى السياسية الفلسطينية في الداخل.
فإذا كان جلّ التركيز على القضايا الاجتماعية المعيشية فهذا يعني ــ طالما أن اللعبة أصبحت سياسية برلمانية ــ أن مسألة الأسرلة أصبحت وتحوّلت إلى مسألة إما مقبولة أو هي في طريقها لأن تصبح كذلك!
وإذا كان جلّ التركيز على المسألة الوطنية (القومية)، فإن الجماهير الفلسطينية ستشعر أنها "متروكة" للمؤسسة الصهيونية، وخططها وبرامجها لتهميش هذه الجماهير، والاستمرار في التعامل معها ليس كقضية جماعية، وليس كحالة وطنية، أو قومية، وليس حتى كأقلّية معترف بحقوقها، مهما كان هذا الاعتراف غامضاً وملتبساً ومموّهاً وتضليلياً كذلك، وإنما كأفراد أو فئات "منخرطة" في الهياكل "السياسية" والاجتماعية والاقتصادية الإسرائيلية، وليس كمكوّن جمعي يسعى للانعتاق الجمعي من هذه الهياكل.
وباختصار، أيضاً، فإن الجماهير الفلسطينية في الداخل في ضوء "المحصّلة" التي تشكلت لديها كانطباعات باتت حائرة بين مشروع صهيوني يعمل ليل نهار على تهميشها سياسياً من خلال إنكار حقوقها الوطنية والقومية، بل ويؤسس للفتك بها، بالحديث عن الترحيل الجماعي على لسان بعض القوى الفاشية، التي باتت متنفذة في الواقع الإسرائيلي، ولم تعد قوى سياسية هامشية أو تمارس "الهلوسة" الأيديولوجية، باتت حائرة بين هذا كله من جهة، وبين "طحن" منظم تقوم به هذه المؤسسات الصهيونية لكل حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، (كنتيجة "طبيعية" و"منطقية") للموقع "القانوني" الذي "تمثّله" هذه الجماهير.
تتهرب القوى السياسية كلها من الإجابة عن أسئلة الطبيعة الحقيقية للمشروع الصهيوني حيال الشعب الفلسطيني، ولجماهير شعبنا في الداخل كجزء من شعبنا، وكجزء أصيل وأصلاني منه، وفي الموقع المتقدم من ميدان المجابهة مع هذا المشروع.
جماهير الداخل مرتبكة وحائرة وليست على أي يقين سياسي هنا. يعلو هذا الارتباك ويخفت حسب معطيات وتطورات سياسية واجتماعية معينة، لكن تجربة فشل وإفشال "المشتركة"، وحالة التشرذم الجديدة، ووصول الأمور إلى حدّ المجاهرة بقبول "الأسرلة"، والهروب والتهرب من وضوح الرؤيا حيال طبيعة المشروع الصهيوني كلها عوامل عزّزت الإرباك"، وساهمت في حالة الإحباط التي تشعر بها جماهير شعبنا في الداخل.
ثالثاً، حالات العنف والجريمة التي اجتاحت واستباحت وتستبيح كل القرى والمدن والتجمعات الفلسطينية في الداخل فاقمت كثيراً من حالة الإحباط، الأمر الذي ما زال مسكوتاً عنه في هذه المسألة بالذات أن الحديث يدور حول تقاعس السلطات الأمنية، أو تخلّيها عن "واجب" التصدي لعصابات الإجرام المنظّم في هذه التجمعات دون امتلاك شجاعة، أو الشجاعة الكافية في الربط ما بين الدور الوطني و(القومي) للفلسطينيين في الداخل، وتبلور وعيهم القومي بصورة خاصة في السنوات الأخيرة، وازدياد وعيهم لذاتهم الوطنية، ووعيهم للاحتياطات الكامنة في هذا الوعي وما بين خطط "المشروع الصهيوني ذاته" في إيصال جماهير شعبنا هناك إلى مثل هذه الدرجة من اليأس والإحباط.
نعم، يجري الحديث عن دور الشرطة الإسرائيلية، ولكن لا يجري الحديث المباشر عن علاقة ذلك بمخططات الشرذمة والتفتيت كجزء من "الرؤيا" المفترضة لطبيعة المشروع الصهيوني.
وحتى عندما يتم الحديث على لسان معظم القوى السياسية عن حقوق الأقلية القومية لا يتم الحديث المباشر والصريح عن أن هذه الحقوق لها طريق آخر غير الطريق البرلماني، ولها برامج أخرى غير "الانخراط" في الهياكل الإسرائيلية الصهيونية، ولها قنوات ومسالك ذات أبعاد "استقلالية" في كل الأبعاد غير الأبعاد التي يكرسها المشروع الصهيوني.
هذه ليست سوى عناوين تحتاج إلى المزيد من التفاعل والحوار والمعالجات قبل الانتخابات، وربما بعدها على وجه الخصوص.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد