لم يكن موقف دولة الاحتلال، وردّة فعلها على تصريحات الرئيس أبو مازن بخصوص المجازر التي ارتكبت بحق شعبنا مفاجئاً، ولا كان الالتفاف الشعبي والموقف المؤيد والمؤازر للرئيس من الكل الفلسطيني مفاجئاً أيضاً. فدولة الاحتلال التي تبنّت فكرة احتكار دور الضحية، وعدم السماح لأحد أن يقوم بإطلاق أي صرخة ألم مشابهة لما مر به اليهود - على اعتبار ذلك حدثاً لا يمكن أن يتكرر في التاريخ - بادرت منذ اللحظة الأولى، مثلما تفعل ذلك، لتجريم التصريحات وتصويرها أنها خطرة وتشكل إنكاراً للهولوكوست. نفس الصراخ الذي تقوم به دائماً أمام أي شخص يوجه انتقاداً لها ولسياساتها وجرائمها. المساواة بين نقد إسرائيل والمعاداة للسامية مثلاً باتت خطاً واضحاً في كل سياسات إسرائيل تجاه من ينتقدها. البعبع الذي يجب أن يخاف منه من ينتقد جرائم القتل اليومية، والإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، هو أن يوسم بأنه معادٍ للسامية، وبالتالي يتعرض للمحاكمة والملاحقة. الخطاب الصهيوني تأسس على هذه المساواة، وجعل من تكرارها - رغم عدم قبول العالم  بها - رعباً يلاحق أي شخص قد ينتقد إسرائيل أكثر مما تحتمل الأخيرة. لذلك فإن أدوات التشهير والملاحقة جاهزة، وهي تعتمد بالأساس على ضبابية تعريف تلك المصطلحات التي لا يتم التعامل معها بجدية، ولا يعرف وضع تعريفات محددة لها تقنن سهام الاتهام التي يمكن أن توجه ضد الأفراد والجماعات.
مثلاً كيف يمكن أن يكون لاسامياً من كان عرقه سامياً مثل العرب. ولكن هذه ليست القصة. طالما كان هتلر قد استهدف اليهود على أساس عرقي، وطالما كان أصل اليهود الأصلانيين سامياً، فإن أي نقد لليهود ولمؤسساتهم في العالم، أو المساس بأي مفاصل الرواية الصهيونية حول ما تعرّض له اليهود من اضطهاد، ليس على يد هتلر بل في التاريخ، أو حتى مساواة أي شيء بذلك، سيكون أمراً معادياً للسامية ويجب ملاحقة ومحاكمة من يقوم به. القصة ليست نقد تصرفات آنية، بل مجرد إجراء مراجعات للتاريخ قد تودي بالمرء في قفص ذات الاتهام. وعليه، فإن معاداة السامية تعني بالطبع معاداة إسرائيل وسياساتها. ولمّا لم يتم فحص المصطلح، ولا تم تقديم مرافعات مناقضة له من قبل المناهضين للظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني، فقد تم أخذ الأمر بوصفه مسلّمة من المسلّمات التي لا يجب المساس بها.
يترافق هذا مع وجود آذان صاغية في المجتمع الدولي لكل ما قد تقوله إسرائيل، وما توجهه من انتقادات بحق أيّ من خصومها. فأي نضال ضدها هو إرهاب، وأي علاقة مع من يقول بالدفاع عن حقه في وجهها سواء في فلسطين أو لبنان أو خارجهما، فهو إرهابي يتساوى بذلك مع أي إرهابي آخر في العالم. وأي نقد موجه لها هو نقد للحقيقة التي تمثلها (زوراً) أنها مدافعة عن حق اليهود المظلومين في التاريخ.
ثمة حقائق لا يمكن نكرانها في هذا السياق، فالجرائم التي ارتكبها هتلر بحق البشرية لا يمكن غفرانها أو التسامح معها. وهي قد لا تكون مسبوقة في التاريخ من حيث بشاعتها، رغم أن التاريخ شهد حوادث مؤلمة كثيرة، وما تم بحق اليهود وحرقهم على أساس ديني أمر من الفظائع البشعة في التاريخ، مثل الإبادات الجماعية في مراحل التاريخ الغربي المختلفة. وهذه حقيقة لم نكن ولن نكون كفلسطينيين منكرين لها ببساطة؛ لأننا شعب يقع تحت الظلم والمذابح والتقتيل والتشريد، ولا يمكن لنا أن نقبل شيئاً مشابهاً حدث مع غيرنا ونقول عنه صواب.
ولكن هذا ليس ذنبنا، ولم نكن جزءاً منه. إنه جزء من تاريخ أوروبا الأسود، وليس تاريخ شعبنا العربي الذي وقع تحت الحكم التركي آخر خمسمائة سنة، دون تقديم أحكام قيمية عن تلك الفترة، وتحت الاستعمار الأوروبي آخر مائة سنة. بل إن الكثير من مناطق الشعب العربي تعرضت لتدمير ومذابح وقتل جماعي على يد الغزاة الأوروبيين، مثلما حدث مثلاً في الجزائر. ما حدث خلال الهولوكوست   ليس ذنبنا ولا علاقة لنا به. بل ذنب من يريد لإسرائيل أن تواصل احتلالنا وتدميرنا وتشريدنا، ويساعدها بذلك بالمال والموقف والحماية في المؤسسات الدولية. المطلوب من العالم أن يستيقظ قليلاً ليرى الحقيقة.
الحقيقة أننا ضحية ما حدث في الهولوكوست؛ لأننا ضحية الضحية. وأصعب شيء أن تكون ضحية الضحية، لأن الضحية التي وقعنا تحت مقصلتها أصيبت بالعمي؛ من وقع وهول ما حدث لها، ومن شدة إعجاب العالم «الحر» بها ودعمه لها، فلم تعد ترى الحقيقة. لم نقع تحت أقدام الفيلة فقط، بل إننا تم التآمر علينا من كل قوى العالم، وتم تقديم شعبنا وجبة سهلة حتى يلتهمها القتلة. إنها الحقيقة التي تريد الصهيونية أن تخفيها؛ حتى تواصل لعب دور الضحية الوحيدة التي يجب على العالم أن يشعر دائماً بالذنب، ويواصل دعمه اللامحدود لها ويسجن كل من يحاول أن ينتقدها.
ما قاله الرئيس أبو مازن كان بهذه البساطة. نحن شعب أيضاً تعرضنا للقتل وللمذابح، وعلى العالم أن يفك العصبة عن عينيه حتى يرى جيداً. دون أن يرى العالم هذه الحقيقة لا يمكن له أن يكون مساهماً حقيقياً في أي جهد لإحلال السلام، ودون هذا الإقرار لا يمكن تصويب مسار التاريخ وتعديل هذا المسار باتجاه العدل المنشود الذي غاب يوم قررت عصبة الأمم، وقبلها السيد بلفور سيئ الذكر أن يعطي أرضنا لغيرنا. العالم مليء بالفواجع والآلام، وليس من حق أحد ينكر علينا أن نعيد سرد روايتنا حول ما حدث لنا في الطنطورة والقبيبة ودير ياسين وكفر قاسم وعشرات المذابح الأخرى. شكراً لك السيد الرئيس لأنك جعلت هذه الحقيقة واضحة.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد