عندما قامت الثورات التي سمّيت «الربيع العربي» في عدد من الدول العربية، كان الهدف منها القضاء على فكرة حزب السلطة الذي تحوّل مع الزمن إلى حزب الدولة، بل وأصبحت الدولة رهينة له، والذي لا ينسجم مع التغيرات والتطورات التي حصلت في العالم من حولنا. وفشل هذه الثورات كان سببه الجوهري عدم وجود أحزاب سياسية مدنية علمانية وديمقراطية، يمكنها أن تقود عملية التغيير الديمقراطي في العالم العربي. والبديل الوحيد الذي كان قائماً في ذلك الوقت هو الحركات الإسلامية، خاصة حركة «الإخوان المسلمين». والدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، عقدت اتفاقات مع هذه الحركات لتتسلم السلطة وتدور في الفلك الأميركي، دون تلبية لحاجات الناس ورغبتهم في الوصول إلى التنمية والديمقراطية الحقيقية، وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. ولهذا السبب فشلت هذه الثورات في تحقيق رغبات الشعوب وتطلعاتها. ومرت الدول التي حصلت فيها بتغيرات وأزمات كبيرة ليس سهلاً التعافي منها.
والدرس الأهم لما حصل في العالم العربي، المتخلف فعلياً عن عوالم أخرى، هو أهمية وجود أحزاب سياسية مدنية، والتعددية الحزبية الحقيقية التي تسمح بتداول السلطة وخلق مسافة بين الأحزاب والدولة، بحيث تقود الأحزاب التي تنجح في اختبار الانتخابات الديمقراطية الدولة، ولا تملكها وتوزعها على أفرادها باعتبار أنها ملك للحزب يوزع فيها المناصب والمكاسب كيفما شاء، وبناء فقط على الانتماء له أو درجة نفوذ العضو ومستوى علاقاته مع المتنفذين. وللأسف لا يزال عالمنا العربي بعيداً عن الوصول إلى بناء مجتمعات مدنية حقيقية، فيها أحزاب سياسية يمكنها أن تقود البلاد نحو التنمية والتحرر والتقدم على كل المستويات.
في واقعنا الفلسطيني، نحن نعيش وضعاً أسوأ بكثير مما عاشتها الدول العربية، أو حتى البلدان التي مرت بثورة أو تغيير كبير، باستثناء سورية التي لا تزال تعاني من الاحتلالات، ولم تستتب فيها الأمور بعد وإن كان حزب السلطة لا يزال قائماً، ولكنه بكل تأكيد فقد الكثير من قوته، وأي مصالحة داخلية حقيقية ستفضي إلى تقاسم السلطة، وإلى نوع من الديمقراطية ينهي تحكّم حزب السلطة في مقدرات الدولة. فنحن لا نزال نعاني من الاحتلال الإسرائيلي، ولم ننجح في تجربتنا المتواضعة، منذ إنشاء السلطة الوطنية على أساس اتفاق «أوسلو»، في تكوين نظام سياسي قائم على دولة مدنية حقيقية، وسلطة ديمقراطية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق.
السلطة الفلسطينية قامت على أساس فكرة أن حركة «فتح» هي حزب السلطة وهي السلطة والدولة، بحيث إن غالبية المواقع والمناصب الحكومية ينبغي أن تكون للحركة، وبحيث لا يوجد فصل بين «فتح» والسلطة، ليس فقط في الحكومة والمناصب الرفيعة المرتبطة بنتائج انتخابات كما يحصل في الدول الديمقراطية، بل حصل اندماج بين الحركة والسلطة بحيث لا يوجد تمييز بين مؤسسات «فتح» والعاملين فيها، وبين مؤسسات السلطة. وهذا الدمج والاختلاط أضر بالطرفين أي الحركة والسلطة.
وجاءت « حماس » إلى السلطة على نفس الخلفية، أي أنها تعتقد أنه إذا فازت في الانتخابات كما حصل في عام 2006، فإنه من حقها أن تصبح حزب السلطة وتستبدل «فتح» فيها، أو على الأقل تشاركها السلطة بحصة لا تقل عنها في إطار تقاسم الحركتين لكعكة السلطة. وعندما لم تسمح «فتح»، باعتبارها حزب السلطة والمالك الحصري، بهذا التقاسم حصل الانقلاب الحمساوي، ومارست «حماس» في غزة حكماً باعتبارها حزب «السلطة» الحصري في غزة. وهذا عملياً وضع الشعب الفلسطيني بين سلطتين وحزبَي سلطة لا يفرقان بين الدولة والحزب، بل يعتبرانهما شيئاً واحداً، والشعب عليه أن يسلّم بهاتين السلطتين دون وسيلة لتغيير الأمر الواقع في ظل غياب العملية الديمقراطية.
وفي الواقع فقدت «فتح» الأغلبية لدى الشعب؛ بسبب حكمها في الضفة، وعدم الفصل بينها كحركة وطنية وبين السلطة التي تتحمل وزرها وكل أخطائها. وفقدت «حماس» جزءاً كبيراً من التأييد الشعبي الذي كان لها في السابق عندما كانت حركة معارضة. وهي تتحمل الآن المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور في قطاع غزة، ويعاملها الناس باعتبارها حزب سلطة أمر واقع لا تفصل بين السلطة وبين الحركة. وهكذا يسير الواقع الفلسطيني كله في طريق معاكس لسير التاريخ، ويجعلنا أقرب للظروف التي دفعت الناس للثورة في العالم العربي. ولكن بسبب خصوصية الوضع الفلسطيني، ووجود الاحتلال الإسرائيلي، يبدو أن التغيير في هذا الواقع يسير ببطء شديد. ومع ازدياد خسارة الحركتين الحاكمتين، يظهر أننا نسير نحو فوضى وفقدان سيطرة بطريقة أو أخرى. والاحتلال لا يزال يتحكم في الكثير من المفاتيح.
للخروج من هذه المأساة والكارثة التي نحن سائرون نحوها؛ في ظل تراجع القضية الفلسطينية والمخاطر التي تهدد المشروع الوطني برمته، علينا أن نستوعب أن الوضع القائم ليس فقط سيئاً، بل ويقضي على فرصتنا في التحرر من الاحتلال والاستقلال الوطني الناجز، وأن نعمل على تغيير واقعنا بالتخلي عن فكرة أحزاب السلطة، والذهاب نحو انتخابات ديمقراطية حقيقية، ستفضى بلا شك إلى إنهاء فكرة الحزب الحاكم الوحيد أو حزب السلطة، وستقود إلى ائتلافات حكومية لا أغلبية فيها لطرف واحد، وهذا سيكون بداية التغيير الذي يمنح الشعب حقه في الحكم، ويمهد الطريق لتحصيل الحقوق الوطنية التي باتت مرتبطة أكثر بواقعنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد