عندما كان يقال قبل سنوات إن العالم يتغير وإن مفاصل القوى يعاد توزيعها من جديد كان يبدو كأنه حديث رغبات من المتضررين من النظام الدولي القائم، وحين قيل منذ فترة إن أجنحة النسر الأميركي آخذة بالوهن كان يظهر كأنه حديث يستعجل قراءة وقائع لا تعكس حقيقة تلك الموازين. لكن كان يجب أن يحضر الرئيس الأميركي للمنطقة وبكل ما حملته تلك الزيارة من صور حتى ندرك أن العالم يتغير وأن لحظة ما تنشأ في العالم على شكل زلزال يبدأ على الحدود الأوكرانية وتنتهي هزاته الارتدادية في كل العواصم.
مقدمات الزلزال كانت تظهر بعض التشققات في قشرة السياسة وما تعرض له العالم بعد جائحة « كورونا » كشف عري النظام الدولي وأزمة الاقتصاد والسياسة، وفي ظلها كانت تتقدم دول وتتراجع أخرى ثم تتلوها حرب لأول مرة يجري فيها استعراض القوة النووية كواحدة من ممكنات أدواتها وهو ما شكل مانعاً لقوة سميت بالكاسحة لعقود ماضية لتقف عاجزة عن حماية الحلفاء أو ضمان النصر الساحق كما جرت العادة، وتلك كانت فارقة في الصراعات الكونية كان لابد وأن تنذر بانقلاب في العلاقات الدولية.
ولأن السياسة هي ابنة مناخات ولأنها كائن حي تتجدد خلايا وتموت أخرى تتبدل الملامح مع تقدم السنوات كان ولا بد أن نقف بعد جائحة وحرب أمام عالم يتغير، وأن يشهد جدار القوة الأميركية بعض التصدع وأن ممكنات قوة تسقط فجأة وفي لحظة معينة بيد قوى ودول هامشية عندما تتغير وسائل وأدوات الصراع كان لا بد أن تحمل معها تغيراً في طبيعة القائم وتلك طبيعة الأشياء.
يمكن أن نقف أمام مناخات السياسة في الإقليم مع قمتين عقدتا في مدينتين متنافرتين جدة وطهران ولكنهما اتفقتا بشكل غير مباشر على وهن القوة الأميركية الأولى. حيث فيها التي استقبلت رئيساً أميركياً قبل خمس سنوات على وقع الرقص بالسيوف وهو يعبئ أكياس المال بالقوة تستقبل الآن رئيساً ساقته الأقدار وسط عاصفة كونية ليستجدي النفط للتوازن في حرب القارة التي تكافح بما تملك على جانبي المحيط للانتصار على الدب الروسي سواء بالضربة القاضية أو بالنقاط، وإن كانت النقاط هي قطرات النفط التي يملك مفاتيحها الشرق.
ولسوء حظ الولايات المتحدة وإسرائيل فإن دراساتها ومراكز تفكيرها لم تنفصل بعد عن سيكولوجية القوة وهي تنظر للعالم من على قمة النسر، وترى الأشياء أصغر كثيراً من حجمها وترسم سياسة مسحورة بممكنات القوة الكاسحة بصرف النظر عما تستنزفه من موارد تسرع عملية الإفلاس ليس المالي فقط بل السياسي والأخلاقي. وهنا كانت أزمة الامبراطوريات جميعها حين وصلت ذروة قوتها كانت تستنزف من الرصيد.
قمتا جدة وطهران كانتا تعلنان التمرد، وإذا كانت قمة طهران قد ضمت رئيس دولة عظمى يقف على ترسانة نووية فإن قمة جدة لم تضم سوى بعض الدول التي كانت حتى الأمس تخشى كثيراً رد الفعل الأميركي وتضبط إيقاعها على وقع خطوات البيت الأبيض ولا يحسب حسابها في موازين القوى الدولية، لكنها ظهرت فجأة بأنها قادرة على استغلال اللحظة التاريخية التي توفرت.
صحيح أن هناك مناخات تمرد على الولايات المتحدة ليس في المنطقة فحسب بل في العالم، لكن الحقيقة أن هناك جيلاً جديداً يظهر في الخليج أكثر كفاءة في إدارة السياسة من الأجيال السابقة وإن وفرت له اللحظة التاريخية فرصة يحسب له أنه تمكن من التقاطها وتحويل ممكنات الاقتصاد إلى فعل سياسي شكل مادة للصحافة الأميركية وهي تتندر على الرئيس الأميركي وهو يصافح ولي عهد السعودية مستجدياً النفط.
مناخات جديدة في المنطقة صنعتها الأحداث والحروب والإمكانيات. إذ ظهر فجأة أن النفط سلاح يعادل أو يتفوق في لحظة الضرورة على غيره من الأسلحة، وهنا كان خطأ واشنطن ودبابات الفكر خلف واجهاتها الزجاجية وهي تقدر اكتشافات النفط هناك وتقرأ المستقبل بممكنات القوة وتضع احتماليات تراجع أهميته مع تلك الاكتشافات أولاً ومع التطور التكنولوجي الذي يعني في كثير من جوانبه الاستغناء عن النفط لصالح الكهرباء، وبالتالي كان ذلك يعني التفكير بانسحاب من منطقة اعتبرت حديقة خلفية لمصالح البيت الأبيض منذ ما بعد أربعينيات القرن الماضي، وبدأت تلك الانسحابات في عصر أوباما.
ترافقت تلك مع اضطراب في الإقليم ورغبة إسرائيلية كانت محركاً مركزياً في أحداثه، تلك الرغبة بالتطبيع أرادت استغلال الانسحاب الأميركي لتقديم إغراء الحماية لدول لم تعتمد على نفسها بعد، كانت الفكرة قد بلغت ذروتها منذ عامين بموجة التطبيع ولكن لم ينتبه أحد أثناء ذلك أن دولاً عظمى أخرى كانت تتقدم وتستعيد مكانتها وأن تلك قد تشكل بدائل جدية، وهو ما حدث من اتفاقيات لبعض دوله مع الصين وروسيا وهو ما أدركه مؤخراً الرئيس الأميركي وهو يتحدث عن عودة أميركا للمنطقة لقطع الطريق على هاتين الدولتين. ولكن التاريخ هنا لا يسامح مغفلي السياسة فهي كالماء تتسرب أينما وجدت شقوقاً وقد تشققت العلاقة مع واشنطن.
في ظل مناخات الإقليم القائمة والصور البصرية التي نقلتها وسائل الإعلام والخطابات سواء في قمة جدة كانت مصر تعبر عن حضورها التاريخي أو السعودية التي تستعيد ثقتها بنفسها بعد مرحلة ترامب. وكانت القمتان تعكسان انكماش الحضور الإسرائيلي.
إذ ظهرت إسرائيل كدولة هامشية أمام تلك التحولات الكبرى إلى الدرجة التي لم تأت فيها زيارة رئيس أركانها للمغرب وسط هذه المناخات لأنها جزء من سياق تطبيعي بدأت أطرافه تدرك هامشيته وعدم الاتكاء عليه لصناعة شرق أوسط مختلف.
وإذا كانت الأعوام الماضية قد عبرت عن ممكنات قوة لدى إسرائيل فقد ظهر فجأة في الصراعات الكبرى أن ممكنات القوة في عواصم أخرى أكثر فاعلية على المستوى الدولي وهنا كانت اللحظة التاريخية.
وإذا كانت قمة طهران تعكس الخسارة الأميركية والإسرائيلية الواضحة بالتمرد على حصار إيران وعقد اتفاقيات معها لم تكن قمة جدة أقل فداحة في كسر معادلة اعتبرت لعقود أحد أبرز مرتكزات المصالح الأميركية التي خاضت الحروب من أجلها معادلة الخوف والطاعة العمياء فقد حدث التشقق واختبر العرب أنفسهم وممكناتهم ما يعطي قوة نفسية أكبر في ممارسة السياسة.
واذا كانت الولايات المتحدة تنسحب لتدفع العرب نحو إسرائيل جاءت لحظة تاريخية لتدفع تل أبيب للوراء.
فقد أفلتت اللحظة وبات واضحاً أن من سيدفع ثمن المناخات الجديدة هو إسرائيل، وربما أنها قد تكون فوتت فرصة السلام خلال عقود كانت الولايات المتحدة أكثر حضوراً وكانت نفسها أكثر مركزية، العالم يتغير...!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية