الجدل الإسرائيلي بشأن حماس: الجيش حسم موقفه "نعم للحوار"
القدس / سوا / غزة تبحت عن تصدر المشهد السياسي في العالم العربي والغربي بعد انتهاء الحرب الاسرائيلية الأخيرة عليها لانشغال العالم بما يدور على جبهات كثيرة في الشرق الأوسط سواها، والمفارقة ان إسرائيل أصبحت هي الرئة الوحيدة الفريدة التي تتنفس غزة من خلالها، مفارقات عجيبة كما يصفها الكاتب، فقد سمحت إسرائيل لوزير الخارجية الألماني بدخول غزة والتجول فيها، ولغاية وقت قصير كانت إسرائيل تقوم ولا تقعد عندما يطلب دبلوماسي غربي زيارة غزة، حتى ان الرئيس الإسرائيلي اليميني الأيديولوجي عندما سئل عن التحدث الى حماس لم يبدِ رفضه؛ بل قال "ليس هناك ما يمنعني من الحديث الى كل من يريد التحدث إليّ".
ويعتبر الكاتب والمحلل الاسرائيلي المخضرم بن كاسبيت، في مقاله يعنوان "تحدثوا الى حماس: إسرائيل وحماس يحتاج كل منهما للآخر"، ان الظروف المستجدة في الشرق الأوسط، وسيما الحرب الأهلية في سوريا، وصعود نجم "داعش"، والتخوف الاسرائيلي مما ستؤول إليه غزة بعد تقويض حكم حماس، علاوة على تقديرات إسرائيلية مفادها ان الجهاز السياسي لحماس بات على قناعة بأن كفاحهم ضد إسرائيل لا طائل من ورائه في هذه المرحلة؛ هذه وغيرها - بحسب بن كاسبيت - هي الدوافع الرئيسية التي حدت بالجيش الاسرائيلي ان يوصي بالتحدث الى حماس، وصولًا الى ما هو أكثر من هدنة وأقل من اتفاق شامل للسلام.
الحال في غزة: الحقيقة هي أن القليلين يهتمون بما يجري في غزة، القطاع الذي لفت الى وضعه الكثير من الاهتمام العالمي أثناء وبعد "الجرف الصامد" في الصيف الماضي (يوليو – أغسطس 2014) تم حشره في الزاوية، وفق المعطيات لدى الجيش الاسرائيلي فإن نسبة الاهتمام العالمي بغزة يراوح عند واحدة من أخفض مستوياته التاريخية، ذلك أن القطاع في هذه الأيام ليس مشتعلًا، لقد أصبح مهمشًا، العالم يركز على المفاوضات بين إيران والقوى الكبرى، وحرب الكل ضد الكل في سوريا ولبنان والعراق، وتقدم داعش المجنون، وربما أيضًا فيما يدور في اليمن وليبيا، غزة منسية.
هذا لا يعني أن ليس هناك أحداث، وربما أحداث دراماتيكية، منذ وقت قريب قال رئيس الدولة روبي ريفلين انه هو رجل اليمين الأيديولوجي في معرض رده عن سؤاله عن رأيه في التحدث الى حماس "ليس هناك ما يمنعني عن الحديث الى كل من يريد التحدث اليّ"، في الأيام العادية يعتبر هذا تصريحًا دراماتيكيًا، أما في هذه الأيام حيث الاهتمام منصب على جبهات أخرى فإن هذا التصريح يمر دون أن يلتفت إليه أحد تقريبًا.
ومن ورائه تقف دراما سياسية أمنية ليست بالقليلة؛ أولًا مهم ان نقول انه بين إسرائيل وحماس توجد محادثات متواصلة ومتشعبة، ولكنها ليست مباشرة، من خلال قطر، قطر نفسها التي رفضت إسرائيل بازدراء مبادرتها للتوسط في المراحل الأولى من "الجرف الصامد" وفضلت مصر عليه، نعم مصر ذاتها التي لا تريد الآن ان تسمع شيئًا عن غزة، ولكن هذه مجرد البداية فقط، جهة أخرى تتوسط بين إسرائيل وحماس هي الأمم المتحدة، وغاية ما قبل أيام قليلة قام مبعوث الأمم المتحدة الى الشرق الأوسط روبرت سيري بفعل ذلك، وهذه العملية ما زالت مستمرة الى الآن مع منسق عمليات الجيش الاسرائيلي في المناطق الجنرال يواف موردخاي.
هذه العلاقات الغريبة بين اسرائيل وحماس برزت في حالات أخرى: حقيقة كون إسرائيل سمحت لوزير الخارجية الألماني لدخول غزة هذا الأسبوع (1 يونيو) ويتجول فيها، ولغاية وقت قصير كانت إسرائيل تقوم ولا تقعد عندما يطلب دبلوماسي غربي زيارة غزة، وحقيقة كون ضابط مسؤول من قيادة الجنوب تحدث في الفترة الأخيرة مع مواطني غلاف غزة، وقال لهم ان إسرائيل تعرف كيف تعمل مع حماس، وأنها معنية بأن يكون لها عنوان معلوم في غزة، وحقيقة انه في كل مرة يدلف فيها صاروخ من القطاع على إسرائيل يسارع كل من يعلون والناطقين باسمه الى الشرح بأن ليس حماس هي المطلقة، وإنما "تنظيمات مارقة"، وما إلى ذلك.
في المستوى السياسي الاسرائيلي يدور جدل شديد حول القضية "ماذا نعمل مع حماس؟، وهل من الممكن أن ننتقل الى التفاوض العلني مع التنظيم، الذي يعتبر في إسرائيل وفي غالبية دول العالم الغربي تنظيمًا إرهابيًا بكل ما تعنيه الكلمة؟"، الجيش الإسرائيلي يوصي ان "نعم"، "نعم" وفق جيش الدفاع الإسرائيلي، فالمصلحة الوطنية الاسرائيلية تستوجب التحدث الى حماس، وربما حتى التوصل الى تفاهمات أقل من اتفاقية سلام، ولكن متقدمة ومفصلة أكثر من هدنة.
وإليكم الأسباب المفاجئة لموقف الجيش الاسرائيلي هذا: حماس فهمت - ووفق تشريحات علمية اسرائيلية - ان كفاحها ضد إسرائيل لا طائل من ورائه في هذه المرحلة، ست سنوات وثلاثة حروب ("الرصاص المصبوب" و"عامود السحاب" و"الجرف الصامد") لم تحسن وضع القطاع؛ بل العكس، آلاف البيوت سويت بالأرض، وآلاف القتلى، وعشرات آلاف الجرحى، والاقتصاد مدمر، والأفق مسدود مظلم والعالم يدير ظهره، وحتى الحصار ما زال ساريًا رغم ان مواد البناء والعتاد المطلوب لإعمار غزة يدخل الآن من المعابر بسهولة نسبية، وربما حان وقت تغيير الاتجاه.
وإلى ذلك؛ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتخذ قرارًا استراتيجيًا، وينفذ سريعا وبعدوانية انفصالًا عدائيًا عن قطاع غزة، انه يرسل غزة الى الجحيم، وليس مستعدًا ان يلمسها ولو باستخدام عصا طويلة، السيسي يبغض حماس، ولقد حلق قطاعًا واسعًا من رفح المصرية لكي يعزل بينها وبين رفح الغزية، لقد سدّ آلاف الأنفاق وأوقف التهريب وشن حربًا ضروسًا ضد الإرهابيين مبعوثي حماس و"داعش" في سيناء، السيسي لا يريد ان يستمع الى غزة، لم يبق لغزة سوى إسرائيل.
في إسرائيل هناك من هم مستعدون لمواجهة هذا التحدي الغريب، "تعال نحلل للحظة آفاقهم" قال لي هذا الأسبوع (بداية يونيو) ضابط إسرائيلي رفيع ضالع فيما يدور في غزة، "بعد ستة أو سبعة سنين لن يكون في قطاع غزة ولو نقطة ماء واحدة، انهم يتصحرون، المياه الجوفية التي يجلسون فوقها تتحول الى مالحة، وحاليا لديهم من 4-5 ساعات كهرباء في اليوم، وربما في القريب يتحسن الوضع بعض الشيء، والبطالة تقدر بحوالي 44%، في الأسبوع الماضي عرضت الأونروا حاجتها الى 200 وظيفة في القطاع، وهل تعلم كم عدد الاشخاص الذين تقدموا لها؟ 27 ألف، الغزيون لا أمل لهم".
إسرائيل تملك ما تحتاجه غزة تحديدًا "25 كم شمالي غزة" أضاف الضابط الإسرائيلي "يوجد موقع لتحلية المياه من بين الأضخم في العالم، نحن نستطيع بقرار لنصف دقيقة حل مشكلة الماء في قطاع غزة وبشكل فوري، ونستطيع ترميم منظومة الكهرباء خاصتهم، وإذا تغير الوضع نستطيع مساعدتهم في قضية البطالة، لدينا هنا إمكانية يعرفها الجانبان".
الآن بلغنا ضعف هذه الرؤية: الشعور الموصوف هنا على ما يبدو شيء في المجتمع الغزي، وسائد أيضًا في أوساط القيادة السياسية للتنظيم، في الداخل والخارج الجناح العسكري ما يزال في مكان آخر، الجناح العسكري ما زال يظن ان إسرائيل لا تفهم غير القوة، هذا الصراع الداخلي بين الجناح العسكري والسياسي داخل حماس يمكن ان يجلب نتائج مختلفة تمامًا، إسرائيل تتعقب الأمر عن كثب، ولكنها أيضًا مشغولة في الصراع الإسرائيلي الداخلي، فالأمر هنا لدينا أيضًا ما زالت الآراء مختلفة، رغم انضمام الرئيس ريفلين الى جانب المؤيدين للحديث مع حماس، يجب ان نتذكر انه قبل ست سنوات فقط، وعند انتهاء عملية "الرصاص المصبوب" (يناير 2009) وقف نتنياهو على مشارف غزة، وتعهد بأنه عندما يصبح في الحكم سيسقط حكم حماس في القطاع مرة وإلى الأبد.
العشق الممنوع بين إسرائيل وحماس يجري في الأعماق، بينما ما تزال الأشياء على وجه الأرض على حالها، في الأسبوع الماضي اخترق الهدوء، وقبل عدة أيام (26 مايو) أطلق صاروخ "غراد" من القطاع وسقط في منطقة مفتوحة جنوب إسرائيل، ويوم الأربعاء (3 يونيو) أطلق صاروخان آخران، وسقطا هما أيضًا دون التسبب بأضرار أو إصابات.
الأضرار الحقيقية التي سببتها الصواريخ هي أضرار إعلامية، فمليون شخص من سكان جنوب إسرائيل كانوا يأملون انه وبعد "الجرف الصامد" يحل الهدوء، وأنهم لن يضطروا الى ممارسة حياتهم في ظل الخوف المستمر من صفارات الإنذار والعدو نحو الملاجئ، والآن على ما يبدو قد بدأوا التعود على هذا الواقع من جديد، وزير الجيش موشيه يعلون صرح هذا الأسبوع عدة مرات بأن "إسرائيل لن ترضى بتقطير الصواريخ، ولن تسمح لهذا الواقع الذي يعيش المواطنون الاسرائيليون حياتهم تحت تهديد الصواريخ بالعودة"، ولكن التصريحات شيء والواقع شيء آخر، في كلا الواقعتين اللتان وقعتا في الأيام الأخيرة هاجم سلاح الجو ما يسمى "أهدافًا إرهابية" في القطاع، في اسرائيل يسمون هذه الهجمات "هجمات عقارية" لا تأثير لها، ولا تشكل أي رادع.
الصواريخ أطلقت من غزة من قبل تنظيمات "مارقة" وسيما سلفية محسوبة على "داعش" وتتحدى حكم حماس في القطاع، إسرائيل تعيش في هذه الحالة معضلة مستحيلة شرق أوسطية تحمل المسؤولية لحماس، إذ ليس لديها عنوان آخر، حماس هي السيد الذي يحكم غزة، ومن جهة أخرى إسرائيل غير معنية بتقويض حماس، إذ قد تسيطر "داعش" على القطاع، لذلك ليس لدى إسرائيل أدوات عمل حقيقية لمحاربة تقطير الصواريخ، عدا عن التهديدات المتكررة لحماس التي لا تحتاج هذه المحفزات، فهي نفسها تعي موقفها المهتز في القطاع، وبانتشار المتطرفين الزاحف.
مهما بدى الأمر غريبًا؛ فإن حماس تصبح بهذه الطريقة "الأمل الأبيض الكبير" لإسرائيل في غزة، "ما نريده من غزة" قال هذا الأسبوع ضابط رفيع لوسائل الاعلام "هو عنوان واضح"، هذا العنوان على الأقل الى الآن هو حماس، والمقصود عنوان اشكالي متوحش عنيف وغير متوقع، ولكن واضح لجميع الأطراف ان أي تغيير لهذا العنوان سيدهور الأوضاع أكثر مما هي عليه.
