يا خالد:
في حزيران، آثار الحرب تبقى ماثلة، المعارك الضارية والرصاص المسكوب. قضم الأرض وضياع الإنسان. اقتلاع الخيام في المنافي وازدحام الطرقات العربية بالجماجم والدمار.
وفي حزيراني، تستمر آثار الحب تسيل المزيد من الحبر، يستحي القلم من فائض البوح وشغف البدايات: «تعلمي البوح دون إفصاح». الكلام عالق على طرف لساني، «سوالفنا» القديمة، صور أيامنا، أسامينا وأولادنا. كلام عالق في قلبي، بلا أنت..فالماضي لا يتركني بحالي، ويغفو إلى جانبي.
ما زلت أراك كما أنت، رغم المطر الذي أغرق ذاكرتي، ورغم الحقائب التي حملتها والمدن التي طويتها، أنت لا تهدأ في ضميري..تحادثني، تراوغني، يفصلنا دخان «سيجارة»، تدير مفتاحك وابدأ الحديث.
سأبوح لك، بأن ثيابنا الفلسطينية بالية وخلاياها لا تستر، كأنها مسروقة من أحد القبور او مشغولة بالقرب من احتضار الروح. سأبوح بأننا نترنح بالمصائر الجديدة. أبوح دون إفصاح، عن الطرق التي تودي بقضيتنا إلى الكهوف، والطرق والجسور التي نتعثر في مسالكها. وسأفصح، عن الذي جنى علينا.. وعن دورنا في توريث الحكاية..
سأبوح دون أن أفصح، عن الزمان الذي غرر بنا، وعن تآمره في وقف أنفاسك، ووقوف الأنفاس الأخرى على الحياد. هل أفصح أم أبوح، عن انكفائي إلى معادلة تختارني، وولوجي بعدك إلى غلاف وهمي، ودفن رأسي «بالهلام».
عن حمامات الدم، والتفكيك الذي نشاهده ونشهد عليه، عن الحدود التي تتغير لتصبح خطوطا قصيرة، تقام الدول بين مربعاتها. سأفصح عن عار الكلام، عن الفلسطيني الباحث دوما عن مكان يستر فيه عورات العرب. عن تكيفنا ومرونتنا مع موتنا العادي. فعندما يحطّ الموت ويختطف أحدنا نتوجع لحظات ونكتفي بالسير في الجنازات، ونذكر شهداءنا في سياق عابر.
سأبوح عن شكلي الذي تغيَّر، وعن غزو الشيب مشاعري. عن عجزي عن تلميعها وشحذها، وسن حوافها وتجديدها، وعن قلبي الذي ينكمش. سأفصح عن أوراقي التي لا تورق. وعن الهرم الذي وصل أطرافي. فهل يقبل طولك الفارع ضآلة مشاعري وذبولي.
وبما تبقى من فصيح الكلام، عن بقايا شامك التي تحب، حيث التقينا وتآلفنا وذوّبنا المكان، سأخبرك بأن القاعة التي أطلقنا عليها اسمك في مخيم اليرموك ، لتكون رمزا للجدل، وموئلا للمعاني القيمة، محاصرة والقتال يدور حولها بلا توقف.
يا ريما:
سأفصح عن ارتياحي بأنك ما زلت تشتاقين وتطلبين أن أكتب من كل مكان أصل إليه. وبأنك لا تنكفئين إلى داخلك، وما زال للوطن متسع في حروفك. انها الطريقة الوحيدة لتورق أوراقك، والوصفة الوحيدة لبقاء الأحلام والأمنيات.
الحياة عندنا تسير في تقلباتها، لا تحقق رغباتنا أو ما نشتهي ونتمنّى، لأنها صدى لفساد عالمكم وانعكاسه على عالمنا. نعيش وإياكم في لحظات مجنونة، قد تُسرقُ منا الشهادة، وتخطفُ منّا أجمل الأوسمة.
سأقول دون مواربة، الوطن أصبح لغزاً بالنسبة لي، ربما لأني كبرتُ من الموت عتياً. وأصبحت زاهداً في التفاصيل، فالأيام التي تمر هنا تموت. ومع ذلك، أنا أعلم عن حالكم وأحوالكم أكثر منكم. السر في أنكم لم تعودوا تتذوقوا نكهة النضال، ولمَ نناضل.. وعن أي شيء ندافع. نسيتم أننا نناضل ليس من أجل الحياة فقط، إنما وجودنا هو الحياة بطعم النضال، إنها الحقيقة التي تقربونها ولا تصلونها.
سأُخبرك بأنكم لا تتعلمون من التجارب الفادحة، لأن ذاكرتكم قاصرة وناكرة لجميل الشهداء؛ سأبوح بأنكم لا تفلحون في الخروج من ضيق أفقٍ ومن نسيان. ومهما ادعيتم اليقظة؛ ما انتم إلا سلسلة من الخيبات العابرة.
هل تلاحظين، الغرابة واللاجدوى والعبثية التي تموت فيها المنطقة العربية. والأهم، هل تنتبهين إلى واجبكم في رفع قيمة شهداء فلسطين في ظل الموت الرخيص، وهل توضحين كيف يرتقي استشهادنا في سبيل استعادة الوطن، وينحطّ موتهم سعياً من أجل تفكيك أوطانهم بكل الوسائل. نحن الشهداء نتوجع من الانتحار العربي، وليس بيدنا سوى الصراخ؛ احتجاجا وخيبة.
لا حلول أنصحك بها سوى الاستمرار في مقاومة التكيّف، مقاومة انعدام الفرص في وجه حلول دوني. اكتبي وثرثري معي وأخرجي ما في جعبتك من عالق الكلام، واكسري عنق الزجاج، وتلهَّيْ به عن خيار التأقلم مع الرداءة.
سأبوح، لا بد من المقاومة حدّ النهاية، هل لديك شك في ان المقاومة أشرف ظاهرة، قاومي إذاً كل شيء ان استطعت حتى أنا، الرجل غير العادي، قاوميني. لقد قلت لك ذات يوم، بأنني لو كنت عادياً ما استطعت تركك لأموت، وقلت رداً على كلامي؛ بأنني لو كنت عاديّا ما استطعت اختراق دفاعاتك.
مثلي لا يبوح أو يفضفض، لكني انتظر يوما نشارك حديثنا الفناجين، نجتاز الحدود ونتخطى الزمان والمكان، نخرج من القمقم، ونذهب إلى حيث يجب أن نكون؛ وتحتجين. تتهادى الأفكار وتتلاعب العفوية بلسانك، وتدلقين الفناجين لتبوح بأسراري. نتفق ونختلف، تنفرين وتقذفين الكلام المباح، ألتقط الشظايا؛ وأعيد زوابعك الى الفنجان.
استمري بكتابة مقالتك السنوية، إنها تؤرخنا معاً. وتفاصيلك الصغيرة ومخيلتك الجهنمية التي تحرك العظام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية