لم يتوقع المحتلون أن يتحول جثمان شهيدة الحقيقة، شيرين أبو عاقلة، من جسد صغير إلى رمزٍ كبيرٍ. ظنوا حين قتلوها أنهم دفنوا تراثها وتاريخها، لم يتوقعوا أن يتحرر جسدُ شيرين من رصاصة الموت ليرتفع علماً وشمسَ حريةٍ في سمائنا. لم يحسبوا أنّ جسدها سينفجر في وجوههم بركانَ مقاومةٍ وإصرار. أخرج جثمانُها ألماسَ النضال الفلسطيني المصقول بلون الدم، أعاد توحيد صفوف الفلسطينيين من جديد، دحر الحزبية والعصبية والقبلية، نثر أريجُ جثمانِها عطرَ بساتين فلسطين الفوّاح في كل أوطان العرب، أعاد جثمانُها إضاءة ساحاتِ العالم ودروبه بحق الفلسطينيين في الحياة الحرة الكريمة!
هكذا حولتْ رصاصةُ الغدر جثمانَها من جسدٍ ماديّ إلى وشم نضالي فلسطيني أبديّ!
نعم، أثارَ مخزونُ الرعب في نعشها جنونَهم، لأن سرير نومها في القدس هدم بضربةٍ حقٍّ واحدة أسوارَهم وحواجزهم، وكاميراتِهم، وبواباتِهم، وفوهات بنادقهم، طارتْ غرفةُ نومها في سماء القدس، حلَّقتْ بثوبها المطرز بعلم فلسطين فوق المساجد والكنائس، أثار جثمانُها غضبَهم، لأنه أعاد إلى جدران القدس وأبوابها وأسوارها صورَ الشهداء ممّن ضحوا بأرواحهم لأجل مدينة السلام والوئام، هكذا حلَّت شيرين في القدس رمزاً ووشماً أبدياً للعدل والحق والسلام!
حاول المحتلون الغاصبون أن يجردوا جثمانها الأخير من وشم فلسطين، ظنُّوا أنهم نجحوا في إدخال مدينة القدس في بيت طاعتهم بتزييف تاريخها، لم يعلموا أن تاريخ القدس وشمٌ أبديٌ يستعصي على التحريف والتغيير!
لم يتوقعوا أن تُدفن شيرين إلى جوار قبرِ أحد أجدادها المناضلين، ممّن أثرَوا الحضارة والفكر العربي والعالمي، نفضَتْ أنفاسُ شيرين الأخيرة الغبارَ عن قبورِ أجدادها الفلسطينيين بناة الحضارة من المفكرين والمبدعين، أزالت نسماتُ روحها غبارَ جرافات الاحتلال عن قبور آبائنا، فظهرَ من جديد قبرُ جَدها المفكر القومي والعالمي، جورج أنطونيوس، المتوفى قبل تأسيس إسرائيل عام 1942، صاحب الشعار الخالد المكتوب على قبره: «تنبَّهوا واستفيقوا أيها العربُ».
شكراً شيرين، لقد أعاد قبرُ جدك إلى مائدتي كتابَه المشهور (يقظة العرب) المؤلَّف باللغة الإنجليزية عام 1936، ترجمه الأديب العراقي علي حيدر الركابي، ألف جدُّكِ كتابه السابق رداً على مؤامرة بريطانيا (إفشال خطة توحيد العرب)، أكَّد جدُّك على وحدة العرب وحضارتهم وحبهم للسلام وكرههم للحروب. نعم، لقد بعث قبرُ شيرين سيرةَ هذا المفكر، الذي يمثل العرب بكل أطيافهم، فهو لبناني المولد ترعرع في مصر، وأكمل دراسته في جامعة كمبردج، وعمل صحافياً أيضاً في عهد حكومة بريطانيا، ثم استقر في فلسطين خبيراً تربوياً ومفكراً وأديباً، ودُفن فيها عام 1942.
سأظل أحفظ ما كتبه هذا المفكر ذو الحاسة الإبداعية الفائقة، عندما حذرنا من ضعف إعلامنا العربي، حين قارن بين إعلامنا العربي وبين الإعلام الصهيوني فكتب عام 1936: «إذا قارنا بين الدعاية الصهيونية والدعاية العربية، وجدنا أن الثانية لا تزال ابتدائية، وبعيدة عن النجاح بعداً شاسعاً، لأن العرب غير حائزين على صفات الدعاية الصهيونية ذات الأثر الكبير، كالمهارة وإتقان اللغات الأجنبية والانتشار، لذلك أصبح العالم لا ينظر إلى فلسطين إلا بمنظور صهيوني، واعتاد أن يتبنى حُجج الصهيونية في نقاشه بصورة لا شعورية». (الكتاب صفحة 426-427)
قال في خاتمة كتابه السابق قبل تأسيس إسرائيل بعقد من الزمن: «إن طرد اليهود من ألمانيا لا يُعالَج بطرد العرب من موطنهم، كما أن تخفيف مُصاب اليهود لا يتم بفرض مصاب مماثل على شعبٍ بريءٍ ومسالمٍ، فلسطين لا تتسع لشعبٍ ثانٍ إلا بترحيل الشعب المالك، أو إفنائه». (كتاب يقظة العرب صفحة 454)
نعم هو المفكر الذي أجاز المقاومة لشعب فلسطين، حين قال: «إن أيَّ حلٍّ يرمي إلى إخراج الفلاحين العرب بالقوة من أرضهم، التي فيها وطنُهم وأشجارُهم وأماكنهم المقدسة ومقابرهم وجميع الذكريات، لا بد أن يقاوم بالقوة». (صفحة 430)
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية