قصصتُ على طالبات مدرسةٍ إعدادية طريقةَ صيامِنا عندما كنتُ في سنهنَّ، قلتُ: حلَّ شهر رمضان في أواخر خمسينيات القرن الماضي، في شهر نيسان، كان الجو قائظاً على غير المعتاد، كنتُ أسيرُ ساعة لأصل المدرسةَ، اعتدتُ أن أسأل حاملي الساعات عن الوقت عدة مرات، مع العلم أن حاملي الساعات من المارين كانوا قِلَّة، لأن الساعات كانت غالية الثمن، ولم أكن أعرف سرَّ توقيت طبلة المسحراتي المضبوط وهو يطرق شباكنا الحديدي، منادياً أن استيقظوا، فهو نفسه لا يملك ساعةً، بل كان يوقظنا وفق حاسته الفطرية وتخمينه الصحيح!
كنتُ أشعرُ بالنشاط أستمدُّ طاقتي في المشي من وجبة السحور الشعبية البسيطة، وهي ليست وجبةً كاملة، بل هي كوبٌ صغير من منقوع قمر الدين، ومن بعض الملاعق الصغيرة من الدبس، وأكمل ملء فراغ معدتي بالخبز. وما إن أصل ساحة المدرسة حتى أشعر بالجوع والعطش، فأتوجه إلى حنفيات المدرسة الثلاث الوحيدة في ساحة المدرسة أبلل شعري، وأغسل وجهي، حتى أخفف إحساسي بالعطش، حنفيات المياه الثلاثة هي الأكثر ازدحاماً، لأننا كنا نتسابق بعد كل حصة نبلل ثيابنا بالماء، كثيرون كانوا يبتلعون جرعاتٍ من الماء، فنسمعهم يقسمون بأنهم لم يفعلوا ذلك، يفتحون أفواههم وكأن المياه ما زالت داخلها ليثبتوا براءتهم من الاتهام!
كانت رحلة العودة هي الأكثر قسوة، لأننا كنا نعود على مهلٍ، ولا نسأل حاملي الساعات عن الأوقات، كنتُ أمارسُ طقس التسكع بين الحقول المزروعة بنبات البرسيم في طريق عودتي، اعتدتُ قطفَ نبات (السريس) أو الهندباء العاشقة لنبات البرسيم، كانت أوراق الهندباء الخضراء رشوتي لوالدي ليكفَّ مؤقتاً عن نقده القاسي لي، كان والدي يقضم السريس مع الطعام بشراهة! كان معتاداً أن يوجه لي نقده الدائم، ليس لإهمالي في دراستي، ولكنه كان يعترض على أصدقائي، وعلى تأخري في العودة، واتساخ ملابسي، أو ثقبها من الأسيجة، على الرغم من أن كلَّ ملابسي معادٌ تفصيلُها من ملابس البالات المستعملة التي توزعها وكالة الأونروا على اللاجئين، وليست من القماش الجديد!
كنتُ عندما أصل بيتنا المجاور لشاطئ البحر، أنزع ملابسي، وأرتدي لباساً داخلياً مفصلاً بإبرة والدتي من بقايا أكياس دقيق القمح البيضاء، أحمل سلة بوصٍ مُخرمةٍ أُكوِّمُ فيها زلفَ البحر المهشم على الشاطئ، (الزفزف) كان هذا الخليط الجيري البحري بديلاً عن حصمة البناء، أجمعُ كومة منها تُباع لصانعي قوالب الإسمنت، كنتُ أمضي ساعاتٍ في جمع كومة صغيرة، يشتريها البناؤون بقرشٍ واحد، يكفي لشراء بعض حبيبات (الدروبس) وهي حلوى مكورة فيها طعم الورد والنعنع! أو قطعة صغيرة من النمورة.
كان لأختَيَّ الصغيرتين واجبٌ يوميٌ آخر، ملءُ جرار المياه الفخارية الثلاث وزير المياه، وهي كل ما نملكه من الماء، كانتا تحملان الجرة فوق الرأس من مضخة المياه الوحيدة البعيدة، فما أن تفرغا من هذه المهمة حتى تنطلقا لجمع (الزفتة) وهي فتات وبقايا قطع القطران السوداء المجمدة على شاطئ البحر الرملي، وهي بقايا من محركات ديزل السفن البحرية، هذه القطرات كانت تستخدم في إشعال النار في بيتنا لتسخين مياه غسيل الملابس، والاغتسال!
عندما نشعر باقتراب المغرب كنا نجتمع بالقرب من باب المسجد الوحيد، ننتظر بشغف صعود إمام المسجد على الدرج الصغير المجاور لبوابة المسجد ليؤذن معتمداً على صوته، لعدم وجود مكبرات صوت، كان الإمامُ معتاداً أن ينظر في ساعته المربوطة بسلسال طويل في جيبه العلوي كلَّ دقيقة، وعندما يضع يديه على أذنيه، كنا نصرخ بفرح ونحن نجري: أفطروا يا صائمين، حتى يسمعنا مَن لا يصلهم صوتُ آذانِ إمام المسجد.
صحون موائد إفطارنا مصفوفةٌ على الأرض، في الأواني الفخارية، يتوسط المائدة صحن السلَطة الكبير، تُقسَّم وجبة الطبيخ الوحيدة في ثلاث (زبديات) فخارية لتتمكن الأيدي من الوصول إليها، بالإضافة إلى الخبز اليدوي، وفي نهاية الطعام نشرب الشاي المُحلى، وقد تنتهي الوجبة بشريحة أو أكثر من البطيخ إن وُجد!
هكذا كان شهرُ رمضان لا يختلف عن بقية الشهور، كنا نعمل بالضبط كما كنا نعمل في الأشهر الأخرى، ولم نفكر في أن نحول فريضة الاقتصاد في هذا الشهر إلى شهر بَطرٍ وإسراف، أو نهرب بالنوم في النهار هروباً من الإحساس بالجوع!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية